قوله تعالى : (كَفَرَ) بعلمهم ، علموا [بوحدانيته](١) ، فكيف يكون ثالث ثلاثة وهو واحد (٢)؟! فإذا قالوا : هو الله فلا يكون هناك ثان ولا ثالث ، وذلك تناقض في العقل (٣).
__________________
(١) في ب : أنه الله.
(٢) في ب : الله.
(٣) لم ينقل من طريق صحيح عن ملة من الملل ـ إسلامية أو غير إسلامية ـ أنها صرحت بأن الله ـ تعالى ـ اتخذ صاحبة ؛ وإنما الذي نقل : هو أن طائفة من النصارى قالت : المسيح ابن الله ، وطائفة من اليهود قالت : عزير ابن الله ، وقد جاء القرآن بآيات كثيرة ترد على هاتين الطائفتين. ولنقصر الكلام على هذه الآية مع تبيين جهة الرد الذي تضمنت :
قال ـ تبارك وتعالى ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الأنعام : ١٠١]. اعلم أن الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ؛ ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها يقال : إنه أبدع فيه ؛ إذا علم هذا فنقول : إن الله ـ تعالى ـ سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة ، بل إنما حدث ودخل في الوجود ؛ لأنه أخرجه إلى الوجود ؛ من غير سبق الأب. إذا علمت هذا فنقول : المقصود من هذه الآية أن يقال : إنكم إما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولدا لأبيه ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ مفهوما ثالثا مغايرا لهذين المفهومين.
أما الاحتمال الأول : فباطل ؛ وذلك لأنه تعالى ـ وإن كان محدث الحوادث في هذا العالم الأسفل ؛ بناء على أسباب معلومة ووسائط مخصوصة ـ إلا أن النصارى معترفون بأن العالم الأسفل ؛ محدث ومبدع من غير سبق مثال وإذا كان الأمر كذلك لزمهم الاعتراف بأن خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة ؛ وإذا كان الأمر كذلك وجب أن إحداثه للسماوات والأرض إبداعا ؛ فلو لزم من مجرد كونه مبدعا لإحداث عيسى ـ عليهالسلام ـ كونه والدا له ـ لزم من كونه مبدعا للسماوات والأرض كونه والدا لهما ، ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق ؛ فثبت أن مجرد كونه مبدعا لعيسى ـ عليهالسلام ـ لا يقتضي كونه والدا له ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[الأنعام : ١٠١] فبهذا بطل الوجه الأول.
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات ـ فهذا أيضا باطل لوجوه :
إحداها : أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة ، وينفصل منه جزء ، ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يجوز عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون ، والحد والنهاية ، والشهوة واللذة ؛ فكان ذلك على خالق العالم محالا ، وإلى ذلك الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)[الأنعام : ١٠١].
ثانيها : أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يحصل في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة ؛ فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد ، أما من كان خالقا لكل الممكنات قادرا على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون ، ومن كان هذا صفته ونعته ـ امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
ثالثها : أن هذا الولد إما أن يكون قديما أو محدثا : ولا جائز أن يكون قديما ؛ لأن القديم يجب ـ