ثم كان ذلك المعنى قائما في اليمين الذي تعمد عليه الكذب ، وهو ما قيل : اليمين الغموس يجب ألا يلزمه كفارة اليمين ، إنما يلزمه كفارة فعل الجرأة والمخالفة لله ، والله أعلم.
وأيد هذا الأصل وجهان :
أحدهما : استواء الأمرين في اليمين المعقودة على الحانث (١) فيما عصى من الحنث فيها أو أطاع أن يستويا في اليمين على الماضي في الوجهين جميعا ، فإذا لم تجب الكفارة في أحد الوجهين لم تجب في الآخر (٢) ، والله أعلم.
والثاني : ما روي عن نبي الرحمة صلىاللهعليهوسلم في شأن اللعان بعد الفراغ منه : «إنّ أحدكما لكاذب ، هل منكما تائب؟» (٣) ومعلوم أن حاجتهما لو كانت تجب فيه الكفارة إلى البيان عنها أكثر من حاجتهما إلى بيان كذب أحدهما ثم لزوم التوبة ؛ إذ ذلك يعرفه كل سفيه وحكيم بلا سمع ، والكفارة لا تعرف إلا بالسمع ، ثبت أنها غير واجبة ؛ وكذا (٤) الأخبار التي رويت في الخصمين : أنه قضى لأحدهما حتى ذكر فيه الوعيد الشديد ، ثم أمرهما بالتساهم بينهما وأن يحلل كل واحد منهما الآخر ، فلا يحتمل أن يكون فيه كفارة ولا يمين (٥) ؛ وكذلك علم في الموضع الذي أمر بالحنث ؛ إذ قد يشتبه على بعض من ليس له روية ، وقد قال إسحاق : أجمع المسلمون على ألا يجب فيه الكفارة ، فقول من يوجبها ابتداء شرع ، ونصب حكم لله تعالى على الخلق ، وهو لم يشرك في حكمه أحدا.
ثم الأصل في ذلك أن الأسباب التي ترفع العقود وتوجب الحرمات إذا تأخرت العقود
__________________
(١) في الأصول : الحادث.
(٢) في ب : الآخرة.
(٣) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٧٢) ، كتاب الطلاق باب صداق الملاعنة حديث (٥٣١١) ، ومسلم (٢ / ١١٣٢) كتاب اللعان رقم (٦ ـ ١٤٩٣) ، والحميدي (٦٧٢) ، وأحمد (١ / ٥٧) وأبو داود (٢ / ٢٧٨) كتاب الطلاق باب استتابة المتلاعنين بعد اللعان من حديث ابن عمر.
(٤) في ب : وكذلك.
(٥) أخرجه أحمد (٦ / ٣٢٠) ، وأبو داود (٢ / ٣٢٥) كتاب الأقضية : باب في قضاء القاضي إذا أخطأ (٣٥٨٤ ، ٣٥٨٥) من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة ؛ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنكم تختصمون إلى ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته ـ أو قد قال : لحجته ـ من بعض ، فإنى أقضي بينكم على نحو ما أسمع ؛ فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة» ؛ فبكي الرجلان ، وقال كل واحد منها : حقي لأخي ؛ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما إذا قلتما ؛ فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه».