والثاني : ذكر أبو عبيد أن الله إذ نهي عن الوعد إلا بالثنيا بقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤] ، فذلك النهي في اليمين أوكد وأشد ، فمن حلف بلا ثنيا عصى الله ؛ فيلزمه الكفارة.
والأصل عندنا : أن الكفارة تجب للحنث في اليمين ؛ إذ هي كفارة ، والكفارات إنما تكون للسيئات ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وغير ذلك من الآيات. ومن البعيد في العقل طلب تكفير الحسنات ، بل الحسنات تكفر (١) السيئات ، والحنث في التحقيق اسم المأثم.
ثم معنى الذنب فيه ؛ لأنه كان عاهد الله ألّا يفعل كذا ، ففعله يخرج مخرج نقض العهد فيه ؛ فيأثم لا بالعهد ؛ ولذلك قال الله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١].
وفي الجملة أمر الله أن يوفوا بعهده لا أن ينقضوا ، وقد جعلت اليمين عهده وأمرنا بوفائه ، فنقضه يوجب الخلف في وعده والنقض لعهده ؛ فيأثم الحالف لا بالحلف ؛ فلذا (٢) تجب الكفارة ، ولو كان لليمين كفارة لكان الحنث أحق أن يوجب الكفارة.
ثم لا يجوز أن يكون من حلف أن يطيع الله يكون به عاصيا ؛ ثبت أن الكفارة لو كانت تجب بيمين على المعصية لتصير تلك معصية فيجب ثم حق كفارة مثلها الحنث فيها.
وعلى ذلك روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : أنّ «من حلف على شىء فرأى غيره خيرا منها ، فإنّما كفّارته أن يأتي الّذي هو خير» (٣) ؛ فكذلك تكون كفارة اليمين لو احتملت [أن يرجع عن الوفاء بها.
وأما كفارة ما لا وجه لدفعه : تكون بالتوبة والحسنة تكفر ، لا بالرجوع ؛ وعلى](٤) ذلك جميع أنواع الكفارات أن ما احتمل دفع الحقيقة والرجوع عنه جعلت كفارته بالتوبة عنه ، ونقض ما قد فعل ، وما لا يحتمل فلا فيعتبر ذلك ، فلو كان لليمين كفارة لكانت توبة وفسخا لا غير ، فإذا أوجب الله غير الرجوع ثبت أن ذلك للحنث ، والله أعلم.
ثم الدليل على أنه لا يحتمل إيجاب الكفارة بعقد (٥) اليمين أوجه :
أحدها : أن العقد يخرج مخرج التعظيم لله والتبجيل ، وجعله مفرعا إليه ومأمنا للخلق
__________________
(١) في ب : تكفير.
(٢) في ب : فله.
(٣) تقدم تخريجه قريبا.
(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.
(٥) في ب : لعقد.