كانوا يحرمون الانتفاع بما ذكرنا ، ويقولون : إن الله حرم ذلك علينا ، وهو ما ذكر في آية أخرى قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) الآية [الأنعام : ١٣٦] يحرمون أشياء على أنفسهم ، ويضيفون تحريمها إلى الله ، ثم سفه أحلامهم بقوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] لم يكن تحريمهم هذه الأشياء بالسمع ، ولكن رأيا منهم وتبحثا ؛ فاحتج الله عليهم على ذلك الوجه ؛ ليظهر فساد قولهم من الوجه الذي ادعوا ، فقال : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] فإن قالوا : الذكرين ، فقد كان من الذكر ما لم يحرم ، وإن قالوا : أنثى ، فقد كان من الأنثى ولم يكن فيها تحريم ؛ ففيه دليل أن الحكم إذا كان بعلة (١) يجب وجوب ذلك الحكم ما كانت تلك العلة قائمة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...) الآية ، كأنها نزلت في مشركي العرب ، وكانوا أهل تقليد ، لا يؤمنون بالرسل ، ولا يقرون بهم ، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام ، فإذا ما دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى ما أنزل الله إليه ، أو دعاهم أحد إلى ذلك ، قالوا : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، [كقوله](٢) : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ونحو ذلك : يقلدون آباءهم في ذلك ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ، أي : تتبعون آباءكم وتقتدون بهم ، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئا في أمر الدين ولا يهتدون ، وكذلك قوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) [الزخرف : ٢٤] تتبعون آباءكم وتقتدون بهم ، وإن جئتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم ؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم ، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(٣) :
__________________
(١) العلة : هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع ، وقال أبو محمد بن الجوزي في الإيضاح : العلة : هي حكمة الحكم ، وقد تطلق على مظنته. ينظر : الإيضاح (٣٧) ، نهاية السول (٣ / ٣٧) ، نشر البنود (٢ / ٢٩).
(٢) سقط من ب.
(٣) قال القرطبي (٦ / ٢٢١) : قال علماؤنا : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه ، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، لو لا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول ـ