لا يسوّف التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن ركوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب ، فالله يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته.
وإن بلغ هو ذلك الضيق بأمر دفع إليه ، أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به ؛ فيترك الرجوع ؛ لقلة مبالاته به ، فلا يقبلها ممن هذا وصف توبته ، وحال استخفافه بالذنب.
والثاني : أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه ويبعثه على الرجوع إلى الله ، والتعرض لرحمته وإحسانه ، ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه.
وقيل : الأول في الصغائر ، والثاني في الكبائر ، والثالث في الكفر (١) : بأن صاحب الصغيرة أرق قلبا وأخص ذكرا له ورجوعا إلى ربه ، وصاحب الكبيرة أقسى قلبا من الأول وأظلم ، فهو لا يندم إلا بعد شدة ، وبعد طول المحنة وضيق القلب ، فليس على الله قبول توبة من يتوب في تلك الحال ، ولا توبة من بان منه ما يأمله بالذي عليه قبول ذلك ، ولكن بفضله وبرحمته يقبل ويوفق له بما كان منه من الخيرات والحسنات التي هنّ أسباب التقريب إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والكافر لا يقبلها ؛ إذ هو لا يتوب حتى يموت ؛ فيستيقن بالعذاب ، والله أعلم.
ويحتمل أن تكون هذه الأجرة في الكفار ؛ فيكون فيهم من يظهر التوبة عند الضرورة والدفع إلى الحال التي يزول عنه وسع الإمكان ، ويأنس من الإمهال ؛ ليصل إلى ما كان له يذنب ، فالله لا يقبل توبته ؛ إذ ليست في الحقيقة توبة ممكّن ، بل توبة مضطر ، وتوبة دفع ما حل به ، إذ هو وقت يشغل عن الاستدلال ، وعن الوقوف على الأسباب من جهة التأمّل والنظر ، ولا يرى غير الذي أقبل عليه يظن أن له الخلاص بالذي يبدّل ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ)(٢)
__________________
ـ وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها ، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف ؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه ، والحق ـ سبحانه ـ خالق الخلق ومالكهم ، والمكلف لهم ؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه ، تعالى عن ذلك ، غير أنه قد أخبر ـ سبحانه ـ وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)[الشورى : ٢٥].
(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٢١١).
(٢) قال القرطبي (٥ / ٦١) : السوء في هذه الآية ، و «الأنعام» (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) [الأنعام : ٥٤] يعم الكفر والمعاصي ؛ فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أن كل معصية فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا ؛ وقاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي. وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا : الجهالة هنا العمد. ـ