وقال بعضهم : لم ترض معيشتها ، وفيه إضمار «في» ، أي : (بطرت في معيشتها) فانتصب لانتزاع حرف «في» ، وتأويله ـ والله أعلم ـ أي : كم أهلكنا قرية بطر أهلكها في معيشتها ، حتى صرفوا شكر ما أنعم عليهم ، وجعلوا عبادتهم لغير الذي جعل لهم السعة والرخاء ، فأنتم يا أهل مكة إذا بطرتم أشركتم في سعتكم وخصبكم تهلكون ؛ كما أهلك من كان قبلكم ، وهو كما قال : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٤٤].
وقوله : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) : من القريات ، قريات إذا أهلك أهلها أسكن غيرهم فيها نحو : قريات فرعون وغيره ، جعل مساكنهم لبني إسرائيل حيث قال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ ...) الآية [الأعراف : ١٣٧] ، وقوله : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر : ٥٣] ، ومن القريات ما جعلها خربة معطلة لم يسكن غيرهم فيها نحو قريات لوط وغيره.
وقوله : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي : الباقين ، والوارث : هو الباقي في اللغة على ما ذكرنا آنفا في غير موضع.
وقوله : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) يخرج على وجهين :
أحدهما : إخبار عن هلاك أهل الأرض وفنائهم ويبقى هو ؛ كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] والثاني : إخبار عن هلاك أولئك وجعلها لغيرهم ، أي : للمتقين ؛ كقوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، والله أعلم.
قال أبو عوسجة : (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي : نؤخذ ، وقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ) من الجباية ، أي : يجمع ، يقال : جبيت أجبي جباية وجبيا ، وأجبى يجبي ، أي : حاز يحوز ، (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي : لم ترض بمعيشتها.
وقال القتبي (١) : أي : أشرت.
وقالا : (فِي أُمِّها رَسُولاً) أي : في أكثرها وأعظمها قدرا وهي مكة ، والنبي منهم والكتاب أنزل عليهم.
وقالا : و (أُمِّها) : كلمة لا يتكلم بها أحد يعنون بالكسر.
وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) : جائز أن يكون تلك القرى التي أخبر أنه غير مهلكها حتى يبعث في أمها رسولا ـ :
__________________
(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ، ص (٣٣٤).