غفلة وسهو ، لكن أنشأهم لمنافع أنفسهم ولحاجة لهم لا لحاجة ومنفعة له في إنشائه إياها ، وهو ما قال : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] وقال هاهنا : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز : قيل : إنه المنيع.
وقيل : إنه الذي يذل كل شيء دونه.
لكن العزيز عندنا : هو الذي لا يعلو سلطانه شيء ، ولا يقهر ملكه شيء ، ويعلو سلطانه وإرادته على جميع الأشياء ويقهرها.
والحكيم : قيل : الذي له الحكم.
وقيل : هو المصيب.
وقيل : هو الذي يضع كل شيء موضعه.
والحكيم عندنا : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، والله أعلم.
وقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فإن قيل : ذكر أنه لا يعقلها إلا العالمون ، والعقل يسبق العلم بالشيء ؛ إذ بالعقل يعلم ما يعلم ، فكيف ذكر أنه لا يعقل إلا العالمون ، ولم يقل : وما يعلمها [إلا] العاقلون؟ فهو ـ والله أعلم ـ لوجوه :
أحدها : أن الأمثال إنما تضرب لتقريب ما يبعد عن الأوهام ، ولكشف ما استتر من الأشياء على الأفهام وتجليها عما خفيت فلا يعقل الأمثال أنها لما ذا ضربت؟ ـ إلا العالم.
والثاني : أن العقول تعرف أسباب الأشياء ودلائلها ، فإما أن تعرف حقائق الأشياء وأنفسها فلا ، من نحو المسالك والطرق إلى البلد التي تعرف مسالكها وطرقها التي بها يوصل إليها ، فأما أعينها فلا ، وكذا المراقي التي بها يعلو ويرتفع ، فأمّا عين العلوّ فلا ، وأما العلم فإنه يوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وأنفسها وصورها ؛ لذلك كان ما ذكر.
والثالث : أن يكون قوله : (وَما يَعْقِلُها) أي : وما ينتفع بما ذكر إلا العالمون ، وهو كما قال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] نفى عنهم هذه الحواس وإن كانت لهم أنفس تلك الحواس لما لم يستعملوها فيما جعلت وأنشئت ، ولم ينتفعوا بها ، فنفى عنهم تلك ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي : ما ينتفع بما يعقل إلا العالم ، فأما من لم ينتفع فلا يعقل ، والله أعلم.
وقوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) يحتمل قوله : (بِالْحَقِ) أي : لعاقبة ، وهو البعث ؛ لأنه لم يخلقهما لأنفسهما ، وكذلك لم يخلق الدنيا للدنيا ، ولكن إنما خلقها للآخرة ؛ إذ بالآخرة يصير خلقها حكمة وحقّا ؛ لأنه لو لم يكن خلقها لعاقبة كان خلقها