لحاجة نفسه أنشأ ألذ الأشياء وأحلاها وأنفعها له لا مرّا مالحا أجاجا ما لا ينتفع به ، يخبر عن غناه عما أنشأه من الأشياء ، ليعلم أنه لم ينشئها لحوائج نفسه ، ولكن لما ذكرنا ، وهو على المعتزلة في قولهم : إنه لم يخلق شيئا لا ينتفع به ، وأنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم في الدين ؛ لأنه أنشأ ماء أجاجا مالحا لا ينتفع به ؛ ليكون لهم العبرة في ذلك.
والثالث : فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر ، ودفع الإياس عن توحيدهم ، وقطع الرجاء عن عودهم إليه ؛ حيث أخبر عما يأكلون من الماء المالح والأجاج والعذب السائغ جميعا اللحم الطري مما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطري أن يفسد من ساعته.
ويذكرهم أيضا عن قدرته أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدنو منه والقرب ؛ فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد ، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.
والرابع : يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حيث قال : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يذكر عظم نعمه وقدرته حيث جعل البحار مسخرة مذللة يقدرون على استخراج ما فيها من الحلي والجواهر ، والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار ، وقطعها بسفن أنشأها لهم ، وأجراها في الماء الراكد الساكن برياح تعمل عمل جريان الماء ، بل الأعجوبة في إجراء السفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء ؛ لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء ، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاءوا ؛ دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم ، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء.
أو أن يكون المثل الذي ذكر في البحرين : أحدهما عذب ماؤه ، والآخر أجاج ماؤه يكون للعمل الصالح وهو التوحيد ، وللعمل السيئ وهو الكفر يقول : كما لا يستوي في الفضل الماء العذب والماء المالح ؛ فعلى ذلك لا يستوي العمل الصالح والعمل السيئ.
وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ).
قال بعضهم (١) : (مَواخِرَ) تجريان إحداهما مقبلة ، والأخرى مدبرة بريح واحدة ، وتستقبل إحداهما الأخرى.
وقال بعضهم : المواخر : هي التي تشق الماء ، وتقطعه ؛ من مخر يمخر ، وقد ذكرناه
__________________
(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٨٩٥٤) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٥).