فأهلكهم الله يوم كذا إلا واحدا أو اثنين.
ويحتمل أن يكون ذلك في جميع مكذبيه ورادّي رسالته ويتأسى أتباعه ، ولا شك أن أكثر من بعث هو إليهم كانوا كذلك لهم في الآخرة أو في قوم خاص علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ ألا ترى أنه قال على أثر ذلك : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
ثم في قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] ، وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) نقض قول المعتزلة ورده عليهم ؛ لأنه وعد ـ عزوجل ـ أنه يملأ جهنم بمن ذكر ، فيقال لهم : أراد أن يفي بما وعد أم لا؟ فإن قالوا : لم يرد ، فيقال : أراد ، إذن أن يخلف ما وعد وذلك وحش من القول سرف.
وإن قالوا : أراد أن يفي بما وعد ، لزمهم أن يقولوا : أراد أفعالهم التي فعلوا فيلزمهم قولنا ، وبالله العصمة.
وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ).
يحتمل أن يخرج على التمثيل ، ويحتمل على التحقيق : فإن كان على التمثيل ، فهو وصفه إياهم بالبخل ، والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد لا يقدر على الإنفاق ، ليس على إرادة غل اليد حقيقة ولكن على ترك الإنفاق ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم.
وإن كان على حقيقة الغل والأعناق ، يحتمل ما قاله أهل التأويل : إن أبا جهل ـ لعنه الله ـ حلف لئن رأى محمدا ليدمغنه ، فأتاه أبو جهل وهو يصلي ومعه حجر ، فرفع الحجر ؛ ليدفع به النبي صلىاللهعليهوسلم فيبست يده إلى عنقه وألزق الحجر بيده ، فلما رجع إلى أصحابه قال رجل : أنا أقتله ، فأخذ الحجر ، فلما دنا منه طمس الله بصره ، فلم ير النبي صلىاللهعليهوسلم ، وسمع قراءته ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه (١) ؛ فذلك قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا).
ويحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة إن كان على التحقيق ؛ وهو كقوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ) [غافر : ٧١ ، ٧٢] ، وقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] ، ونحو ذلك مما ذكر ؛ فيكون قوله : (جَعَلْنا) ، أي : سنجعل ذلك لهم ، وذلك جائز في الكلام ؛ كقوله لعيسى حيث قال : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] أي : يقول له يوم القيامة ، فهو بعيد غير
__________________
(١) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٠٦٤).