أحدهما : أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك الله خلقا كثيرا بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك ؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه ؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأولئك بضلالهم به ـ والله أعلم ـ (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) : أنه فعل ذلك بهم ، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هؤلاء النظر في أمر أولئك (١).
والثاني : قوله : (جِبِلًّا كَثِيراً) : قال بعضهم : جموعا كثيرة.
وقال بعضهم : خلقا كثيرا.
وقال بعضهم : أمما كثيرة ؛ وكله واحد ، وأصله من قولك : جبلهم على كذا ، أي : طبعهم ، ويقرأ : (جِبِلًّا) و (جِبِلًّا) برفع الجيم والتشديد وخفضها والتشديد.
قال أبو عوسجة : الجبلة والجبلة : الخلق.
وقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).
يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا : ما هذا الذي نراه؟! فعند ذلك قيل لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها ، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، أي : ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها ، والله أعلم.
وقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ).
أي : نطبع على أفواههم ، فلا يتكلمون (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
كأنهم ـ والله أعلم ـ لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا ؛ كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا ؛ كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) الآية [النور : ٢٤] ، وقوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ ...) الآية [فصلت : ٢٠] ، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١].
وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان ، ولكن للطف يجعل الله ذلك في اللسان فينطق ، فحيثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت ، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان ، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان ، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : يحتمل أن يكون على التنبيه والإذكار لهم ، لما عسى ألا يبلغهم ذلك ؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب ، شرح.