إنما قال اللعين هذا ـ والله أعلم ـ لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله ؛ لأنه إنما سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوبيته ؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله ؛ وكذلك قال لقومه : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) إلى ما يقول موسى ؛ تعجبا منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر.
ثم قال موسى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فقال عند ذلك : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ، نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر ، إنما كان السؤال منه عن الماهية ، وهو لم يجبه عنها ، فعند ذلك قال موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية ، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوبيته وألوهيته حيث قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ذلك ، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السموات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك ، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى ، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى ؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما ، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبدا ، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه ، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذا لم يكن بنفسه ولا كان نفسه ، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره.
ثم قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) : ذكر هاهنا قدرته وسلطانه ، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق ، وبالليل من المغرب ، ويطلع الشمس من المشرق ، ويغربها من المغرب ؛ وكذلك القمر والنجوم ، ففيه دلالة البعث ؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا ، وبالليل من ناحية كذا ، والشمس والقمر من كذا ـ قادر على البعث ، لا يعجزه شيء ؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى.
وفي قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دلالة ربوبية الله وألوهيته.
وفي قوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) دلالة حدوث ما ذكر وفنائه ، ودلالة محدث ومدبر.
وفي قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا.
وفي ذلك دلالة أن الله تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس ، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه ، وبالآيات التي تدل على وحدانيته ، حيث سأل فرعون موسى عن