سلما لله ، خالصا له ، وبين من لم يفعل ذلك ـ لكان في ذلك استواء بين من ذكر ، وفي الحكمة أن لا استواء بينهما ، وقد يموت السالم نفسه لله ، ويموت الآخر دل أنّ في ذلك بعثا ، يثاب هذا ، ويعاقب الآخر ، والله [أعلم].
أو أن يذكر هذا ؛ لما كانوا يتشاءمون برسول الله صلىاللهعليهوسلم ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد ، حتى قال ـ عزوجل ـ : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] أي : لا يخلدون ، فعلى ذلك يقول ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أيضا ، أي : لا يبقون بعد موتك أبدا ، ولكنهم يموتون ، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون ، فيجئ ألا يصيبهم بعد موتك ؛ نحو هذا يحتمل ، والله أعلم.
أو أن يقول : إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب ، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات ، والله أعلم.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا لا نعلم ما يفسر هذه الآية ، وكنا نقول : من يخاصم؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله ، حتى كفح (١) بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، فعرفت أنها نزلت فينا.
وذكر عن الزبير : لما نزلت هذه الآية ، فقال : يا رسول الله ، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا ، فقال : (نعم) ، فقال : إن الأمر إذن لشديد (٢).
وروي عن بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا : كيف نختصم ونحن إخوان؟! فلما قتل عثمان ظلما وعدوانا ، علموا أنها لهم وفيهم (٣) ، والله أعلم.
ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين :
أحدهما : في المظالم [أو] في الحقوق التي كانت لبعض على بعض ، أو في الدين ، أو في أمر الدنيا (٤).
__________________
(١) يقال : تكافح المقاتلون : أي تضاربوا وجها لوجه.
ينظر : المعجم الوسيط (كفح).
(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠١٣٨) ، والترمذي (٣٢٣٦) ، وعبد الرزاق وأحمد ، وابن منيع وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٤).
(٣) أخرجه ابن جرير (٣٠١٤٠) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن عساكر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٣).
(٤) في أ : الدين.