فالإمام مالك يوافق على هذه البرهنة القياسية ، لا إستنادا إلى نصّ محدد فحسب ، يضع نفس الحل لمشكلة محددة مماثلة للمشكلة المدروسة ، بل كذلك إستنادا إلى الطّرق العامة الّتي لجأت إليها الشّريعة في مواضع لا تحصى ، أقل شبها ، أو أكثر بما نحن بصدده ، والّتي تستخرج من مجموعها تلك الفكرة الثّابتة الّتي تقول :
إنّ هذا النّوع من الخير هدف جوهري يسعى الشّرع لتحقيقه بكلّ الوسائل الممكنة. فالحالة الجديدة حينئذ لا تقدم لنا سوى وسيلة أخرى يجب أن تستخدم عند ما تفرض بدورها نفسها ، لتحقيق هذا الخير النّوعي الّذي يسميه مالك : المصلحة المرسلة (١).
وبفضل هذا المبدأ ، إستطاع هذا الفقيه أن يحل عددا من مشكلات الأخلاق والشّريعة في اتجاه جدا أصيل ، وإن اصطدم حينا بنصوص الشّريعة (٢).
__________________
(١) كما سبق لنا وقدمنا أعتذارا للقارىء عن تعريف القياس فكذلك هنا أيضا نحيل القارىء إلى المصادر ، كالمنخول للغزالي : ٤٥٥ ، إرشاد الفحول : ٣٥٨ ، الأحكام للآمدي : ٣ / ٢٩٨ ، الأصول العامة للفقه المقارن : ٣٨٢.
(٢) لنأخذ على ذلك المثال التّالي : هل يجوز في حال الحرب أن نضرب في اتجاه جنودنا الذين أسرهم العدو ، واستتر خلفهم ليضربنا ويحتل أرضنا؟ أو أنّ من الواجب ـ على عكس ذلك ـ أن نمسك عن الضّرب رعاية للنصّ الصّريح الّذي يمنعنا أن نستبيح دم بريء؟ .. والله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام ـ ١٥١).
يجيب الإمام مالك عن هذا السّؤال مرجحا الأخذ بأخف الضّررين ، ويعلل لذلك بأننا لو بقينا دون عمل ، إحتراما لهذا العدد القليل من جنودنا ، الذين جعلهم سوء الحظ درعا للعدو ، فإنّ بقية الجيش وهي الكثرة الكاثرة منه ، قد تتعرض للهلاك ، ثم أن ينجو أيضا أسرانا من نفس المصير بعد ذلك. ولا ريب إذن ـ