بل غلبت عليها آراء أخرى في الفقه ، والشّريعة ، وعلوم الدّين ، واللغة. كما أنّ النّظرية الّتي أراد هؤلاء المفكرون أن يبرزوها كانت تعتمد إلى حد كبير على الرّأي الشّخصي ، أو كانت تعبر عن اتجاه المدرسة الفكرية الّتي ينتمي إليها صاحب النّظرية ، ولم تكن الاستعانة بالآيات القرآنية إلّا من قبيل الاستشهاد بها في تأييد هذا المبدأ ، أو ذاك.
أمّا مؤلفنا فقد وضع نفسه منذ اللحظة الأولى على أرض الأخلاق ، وأخذ يعالج المسائل الأخلاقية الواحدة بعد الأخرى ، بحسب المفاهيم ، والمعايير الّتي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين. ومن ناحية أخرى نجده يعني بمناقشة الحلول الّتي جاء بها بعض المفكرين في الشّرق ، أو الغرب ، متخذا من آرائهم ، ومبادئهم ، وسيلة للمقارنة. وهو أثناء ذلك كلّه يجعل من القرآن دائما نقطة ارتكازه ، ويعتمد في استخلاصه للإجابة الشّافية على المسائل المطروحة ، اعتمادا مباشرا على النّصوص القرآنية.
وهنا ، في الحقيقة ، وجد الصّعوبة. إذ أنّ القرآن الكريم ـ كما نعرف ـ ليس كتاب فلسفة ، إذا كنّا نقصد بالفلسفة مجموعة من الأفكار نابعة من العقل ، وتتسلسل وفق منهج معين ، ويكون الغرض منها تكوين نسق من المبادىء لتفسير طائفة من ظواهر الطّبيعة ، أو الكون. إذا كنّا لا نستطيع أن نجد في القرآن هذا النّسق لأوّل وهلة ، ألّا توجد ، مع ذلك ، وسيلة لجمع العناصر والمواد الأولية اللازمة لبنائه؟ لقد سأل المؤلف نفسه هذا السّؤال بالنسبة «للمشكلة الأخلاقية» ، ووجد له من خلال بحثه الحل الإيجابي. فبعد أن نحّى جانبا الأحكام الأخلاقية الخاصة ، أخذ يتأمل في النّص القرآني الكريم باحثا عن سمات «الواجب» ، وعن طبيعة «السّلطة» الّتي ينبعث عنها «الإلزام» أو التّكليف ، وعن درجة «المسئولية» الإنسانية وشروطها ، وعن طبيعة «الجهد» المطلوب للعمل الأخلاقي ، والمبدأ الأسمى الّذي يجب أن يحفز «الإرادة» للعمل.