إلى قدر من النّور في القلب ، يعصمها من الوقوع في ظلمات الحواس بسهولة.
هذه الطّريقة في معالجة نفس المبتدئين في الطّريق بقسوة لا تبدو لنا مع ذلك إبداعا ، أو ابتكارا ، حين نضعها في مجموع النّظم الإنسانيّة المناظرة لها. فلقد اتبع النّاس في كلّ عصر نفس المنهج كلّما أرادوا أن يحدثوا تغييرا ذا طابع عميق ، وهكذا تصنع الأمّ لتفطم ولدها ، كما يفعل المروض ليستأنس الوحوش ، ويدرب جوارح الصّيد (١).
أمّا فيما يتعلق بالنساك أنفسهم ، فلما كان سعيهم إلى اكتساب التّطهر بالجهد والجهاد ، فليس من المستبعد أنّهم قد فرضوا على أنفسهم هذه القساوة في بداية مضمارهم (٢). لكنهم إذا تخطوا هذه المرحلة التّعليمية يتعبون بصفة عامة المسيرة
__________________
(١) انظر ، كتاب الرّعاية للمحاسبي : ٧٩ ـ ٨٠ ، وأيضا كتاب الرّياضة للحكيم التّرمذي : ٣٧٥ من المجموع ـ قال : فكذلك النّفس إنّما تجيب ربها عزوجل فيما أمرها بعد فطامها عن عادات الأمور الّتي اشتهت ولذت ، فإذا فطمتها ألزمتها الدّعاء ، وثناء الرّب ، ومدائحه ، ونجوه ؛ حتّى يأنس بذلك ، ويألف الذّكر ، حتّى ينكشف الغطاء بعد ذلك فيألف ربّه عزوجل ، وكذلك تجد الصّبي قد ألف ثدي أمّه ، حتّى لا يكاد يصبر عنه ساعة ، فإذا فطمته اشتد على الصّبي ، وبكى ، وقلق ، فإذا دام الفطم نسيه ، وأقبل على الطّعام ، والشّراب ، فكلما وجد حلاوة الأطعمة ، والأشربة هجر الثّدي ، وعاف ذلك اللّبن ، وكذلك الدّابة .. إلخ ..». وضرب التّرمذي قبل هذا النّص مثلا بالبازي يربى ، ويدرب حتّى يأنس بصاحبه ، ويألفه إذا دعاه. (المعرب).
(٢) وذلك كأن نجد سهل بن عليّ المروزي وقد تعود حينا ألا يمر بالسوق إلّا مغضيا بصره ، وسادا أذنيه بقطع من القطن ، وفي نفس هذه المرحلة من الزّمن كان يأمر أخت زوجته أن تستتر دونه ، ولكنه بعد ذلك هجر كلّ هذه الاحتياطات. وهناك شخصية أخرى ، لم يذكر اسمها ، من جيل التّابعين ، فرضت على نفسها الصّمت المطلق لسنوات عديدة ، وقد وضع الرّجل في فيه دائما حصاة ، لم يكن يخرجها إلّا لحظة الصّلاة ، والطّعام. (المؤلف). انظر ، كتاب الرّياضة للحكيم التّرمذي : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ من المجموع. (المعرب).