وإذن فإنّ حكماءنا ، في انتظارهم ، وبحثهم عن القيمة العليا ، لم يذهبوا مطلقا إلى حدّ اللامعقول. أليس من التّناقض الأخلاقي في الواقع أن نترك الشّر يستشري ، في انتظار المثل الأعلى؟ ..
لا شك أنّ من الشّجاعة ، والشّهامة ، والرّجولة ، أن نتحمل ـ كما ينبغي ـ ضراوة الجوع عند ما تفرضها علينا ضرورة أخلاقية ، أو طبيعية ، ومن الجميل ، والجليل أن يعاني المرء تجربة العزوبة العفة ؛ فذلك أحرى من أن يوقعه الزّواج في سوء أخلاقي.
وإنّ القرآن ليدعونا إلى هذا الجلد ، والتّحمل ، والمصابرة ، حتّى في الآيات الّتي يمنحنا فيها الرّخص. ولكن للإمتناع حدودا ـ يصبح التّصلب ، والمكابرة من ورائها ، لا أقول : نكالا يرفضه الشّرع فحسب ، بل أمرا ضد إرادة الله ، ورضاه.
ومن المفيد أن نرى كيف تتعاقب هذه الأفكار الثّلاثة في نفس الفقرة القرآنية : (١) الإباحة (٢) النّصيحة بالصبر ، والجلد (٣) استبقاء الرّفق ، وذلك في قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ
__________________
ـ بترك العمل ، فقال : إنك مراء ، فدع العمل ، فردك إلى ما أرادك عليه ، من ترك العمل أوّلا ، فلما لم تجبه إلى تحذيره ورثك أمنه ، فأمنته ، إذ لم تفطن أنّه إنّما أراد أن يحرمك ثواب العمل إذ عرض لك بتحذير الضّرر ، وأنك تريد بذلك الإخلاص ، فلم تخلص لله عزوجل شيئا حين تركت العمل ، لأنّ الأخلاص ، أن تعمل ، وتحذر الرّياء ، وتنفيه عن عملك ، فيخلص لك عند ربك عزوجل ، وليس الأخلاص أن تترك العمل ، فلا يخلص لك عزوجل عملك.
فعلى المريد الأخلاص في عمله ، فإن ترك العمل إرادة الأخلاص فلم يخلص لله عزوجل عمله ولكن تركه». (المعرب).