حيث هو ، قيمة جديرة بأن تطلب لذاتها ، أو بإعتبارها نظاما لنجاة النّفس ـ فإنّ هذه ليست أخلاق القرآن ، على وجه التّأكيد. ذلك أنّ هذه الأخلاق لا ترى أن يبحث الإنسان عن الألم البدني صراحة ، فضلا عن أن تأمر به ، فهي قد فرقت تفرقة واضحة بين الجهد البدني الّذي يتضمنه واجب مقرر ، أو الّذي يصحبه من وجه طبيعي ، وبين جهد مندوب ، هو إبداع خالص لهوى أنفسنا.
إنّها ترفض هذا النّوع الأخير من الجهد ، وتحرمه. ولعلنا نعرف خبر أولئك النّفر من المؤمنين الّذين اعتقدوا أنّ قيامهم بواجب العبادة المشكور يقتضي أن يفرضوا على أنفسهم ضروبا مختلفة من الحرمان ، والتّقشف ، وهو أمر أشار إليه القرآن ، دامغا إياه بالإفراط ، والمخالفة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١).
وقد روت السّنّة تفاصيل هذا الموقف فيما روي عن أنس أنّ نفرا من أصحاب النّبي صلىاللهعليهوسلم سألوا أزواج النّبي صلىاللهعليهوسلم عن عمله في السّر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النّساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللّحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلّي ، وأنام ، وأصوم ، وأفطر ، وأتزوج النّساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٢).
__________________
(١) المائدة : ٨٧ ـ ٨٨.
(٢) انظر صحيح مسلم : ٢ / ١٠٢٠ ح ١٤٠١ ، شرائع الإسلام : ٢ / ٤٩٢ ، المهذب البارع : ٣ / ١٥٣ ، صحيح البخاري : ٥ / ١٩٤٩ ح ٤٧٧٦ ، جامع المقاصد : ١٢ / ٩ ، صحيح ابن حبّان : ١ / ١٩٠ ح ١٤ ، المسند ـ