والحقّ أنّ القلة الّتي يصف بها القرآن ، والسّنّة متاع هذه الدّنيا تدعونا إلى أن نزهد ، ولو قليلا في هذه المتع الفانية.
بيد أنّ هذه الزّهادة الّتي يمكن أن تفهم عموما بمعنى روحي ـ لا ينبغي أن تفهم ماديا إلّا في ظروف شديدة النّدرة ، كحالة إنسان خليّ ، منقطع ، لا يتطلب نشاطه (ولو على سبيل الصّدّقة) أي تكليف ، من قريب أو من بعيد. فمن الأفضل لهذا الرّجل ـ بلا شك ـ أنّه متى ما أشبع حاجاته الخاصة العاجلة ألا يسعى كثيرا إلى مزيد من الكسب ، بل عليه أن يسخر أعظم جهده لتهذيب قلبه ، وروحه.
هذه الظّروف هي على وجه التّحديد ظروف المتصوفة المسلمين ، الّذين سبقهم على هذا الدّرب عدد من صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبخاصة أهل الصّفّة ، لكنه كان واجبا على كلّ المسلمين أن يكون لهم موقف روحي متحفظ حيال المتع الأرضية ، وقدر من التّجرد من هذا الحبّ الزّائد ، الّذي يسخر «الرّوح» «للمادة» ، والّذي يجعل من مجرد «الوسيلة» «غاية» حقيقية.
وليس وراء هذين المعنيين أي موقف متنسك مشروع في الإسلام.
ومن ثمّ لا يمكن أن ننصح إنسانا موسرا بأن يفتقر بإختياره لكي يصير مسلما حقا ، فليس في هذا زهد حقيقي ، إذا ما حكمنا عليه بتحديد النّبي صلىاللهعليهوسلم ـ نفسه ، الّذي يقول :
«الزّهادة في الدّنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزّهادة
__________________
ـ مسلم : ٢ / ٧٢٨ ح ١٠٥٢ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٣ / ١١٧ ح ٢٣٤٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٩٨ ح ٥٥٠١ ، مسند أحمد : ٣ / ٢١ ح ١١١٧٣ ، مسند الطّيالسي : ١ / ٢٩٠ ح ٢١٨٠ ، شرح النّووي : ٧ / ١٤٤.