فهل تأمر الأخلاق القرآنية إذن بأن نستهلك حياتنا ، وأن نضحي بها عن طريق الإرهاق؟ ..
إنّ هنالك أمرين آخرين يجلوان هذا الغموض ، واقرأ في ذلك قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (١) ، وقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢) ، (حقيقة ، ومجازا).
ولو أننا نزلنا إلى بعض الأحكام الخاصة فسنرى اهتماما واضحا بأن يكون تطبيقها أكثر اتفاقا مع الإنسانيّة ، والعقل. فليس توقع الموت ضنكا ، أو إكراها ، هو وحده الّذي يجعل مخالفة الشّرع جائزة ، بل لقد رأينا (٣) أنّ المرض ، والشّيخوخة ، والضّرورات الّتي تفرضها العمليات العسكرية ، ومتاعب السّفر ، كلّ ذلك من الأسباب الّتي يمكن أن تفرض نوعا من التّقليل ، أو التّأجيل ، أو التّعديل في بناء العبادة الدّينية.
وهنا مناسبة أن نبين معنى ، وهدف الإهتمام القرآني بتعديل الواجب تبعا للموقف الّذي يؤدى فيه.
__________________
(١) النّساء : ٢٩.
(٢) البقرة : ١٩٥.
(٣) انظر ، الفصل الأوّل ـ العنوان الفرعي الثّاني ، الفقرة الثّانية ـ خصائص التّكليف الأخلاقي ـ ويمكن أن نضيف إليها بعض الأمثلة ، كالإعفاء من الحجّ ، أو الواجب العسكري ـ لمن لم يستطع إليهما سبيلا ، كالركوبة ، أو زاد الطّريق ، واقرأ في ذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ـ آل عمران : ٩٧ ، وقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) التّوبة : ٩١ ـ ٩٢.