وهكذا يفارق التّعليم القرآنيّ الفلسفيّ ، سواء في المصادر ، أو في المناهج. فهل هما يتفاوتان كذلك في موضوعهما؟ وفي هدفهما؟.
إنّ القول بهذا معناه أننا نقرر ـ بعلم أو بلا شعور ـ أنّ القرآن ليس كتاب دين ؛ ذلك أنّه مهما تكن الفروق بين الفلسفة والدّين ـ والّتي تتمثل في أنّ الأولى ، تستمد منبعها من ارتياب العقل ، على حين أنّ الدّين يستمده من الضّوء الكامل للوحي ؛ أو أنّ كليهما قد ينقاد أحيانا (١) وراء سراب النّخيل ، وأنّ أحدهما (وهو الفلسفة) ليس سوى معرفة محضة ، وبسيطة ، والآخر اقتناع عميق ، مؤثر ، وأخّاذ ـ مهما تكن الفروق بينهما فإنّ الفلسفة في جانبها الأسمى ، وللدين في جميع أشكاله ، هو : حلّ مشكلة الوجود ، أصله ومصيره ، وتحديد الطّريقة الحكيمة ، والمثلى للسلوك ، ولتحصيل السّعادة.
بيد أنّ أفضل ما يدل على التّشابه بين المادة القرآنية بخاصة ، وبين الفلسفة ـ أن نلحظ أنّ القرآن حين يعرض نظريته عن عمق ، وعن الفضيلة لا يكتفي دائما بأن يذكّر بهما العقل ، ويثير أمرهما باستمرار أمام التّفكر والتّأمل ، وإنّما يتولى هو بنفسه التّدليل على ما يقدم ، ويتولى تسويغه. وفضلا عن ذلك ، فإنّ طبيعة إستدلالاته ، والطّريقة الّتي يسوق بها الدّليل ؛ قد اختبرت كلتاهما على وجه يقحم أعظم الفلاسفة دقة ، وأشد المناطقة صرامة ، في الوقت الّذي تلبى فيه أكثر المطالب واقعية ، كما تروق أرقى الأذواق الشّعرية وأرقها ، وأبسط المدارك وأقلها.
__________________
(١) نحن نتحدث هنا عن الدّين بعامة ، لا عن الأديان المنزلة.