التفات الناس إلى البداء. أما قبل إخبار الأنبياء بالمغيبات أو بعده فلا مورد للتكذيب أصلا ، فيكون الإخبار بالمغيبات على نحو الاقتضاء لو لا البداء ، كإخبار الطبيب بشفاء المريض مثلا لو ساعدت المقادير.
ثم إنه لا ريب في عدم صحة تعلّق البداء بالممتنعات ، لاشتراط كون مورده مقدورا مقضيا وهما من أسباب الفعل الخارجي ، ولا خارجية بالنسبة إلى الممتنعات ، ولا قضاء ولا تقدير بالنسبة إليها ، وكذا لا بداء بالنسبة إلى كليات العوام ـ كانقلاب كرة الشمس مثلا ـ وإنما مورده ما يتعلّق بالناس من حيث دخل عملهم فيه خيرا كان أو شرا. وبالجملة مقتضى الأصل عدمه إلا في ما دلت عليه النصوص ، فيكون مورد البداء خصوص بعض الممكنات في الجملة.
هذا ، وقد اجيب عن شبهة البداء بوجوه ..
منها : ما تقدم من أنه تجدد الاختيار ، ولا إشكال فيه ثبوتا ولا إثباتا.
ومنها : أنه بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى خصوص هذا العالم لا جميع العوالم ، كما في قوله تعالى : وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وقوله تعالى : حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ. مع أن علمه الأزلي يتحقق بالنسبة إلى جميع الأشياء أزلا وأبدا ، فقول : بدا لله ، أي ظهر له في هذا العالم ما لم يكن ظاهرا ، ولا ينافي ذلك ظهوره له في سائر العوالم والمراتب. وفي البداء أبحاث اخرى ليس هنا محل ذكرها.
هذا ما يتعلّق بالبداء إجمالا. وأما ما يتعلّق بلوحي المحو والإثبات الذين هما محور البداء ، فلا يعلم حقيقتهما وخصوصياتهما وكيفية الثبت والمحو وغير ذلك مما ينوط بهما إلّا خالقهما أو من أفاض عليه الخالق ، والتفصيل يطلب من محله.