والثاني ـ أنه صفة الصوم ؛ أي صوما مثل ما كتب ، فما على هذا بمعنى الذي ؛ أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم ، و «صوم» هنا مصدر مؤكد في المعنى ؛ لأن الصيام بمعنى أن تصوموا صوما.
والثالث ـ أن تكون الكاف في موضع حال من الصيام ؛ أي مشبها للذي كتب على من قبلكم.
والرابع ـ أن يكون في موضع رفع صفة للصيام.
فإن قيل : الجار والمجرور نكرة ، والصيام معرفة ، والنكرة لا تكون صفة للمعرفة.
قيل : لما لم يرد بالصيام صياما معيّنا كان كالمنكّر ، وقد ذكرنا نحو ذلك في الفاتحة ، ويقوّي ذلك أنّ الصيام مصدر ، والمصدر جنس ، وتعريف الجنس قريب من تنكيره.
١٨٤ ـ (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) : لا يجوز أن ينتصب بمصدر «كتب» الأولى ، لا على الظرف ، ولا على أنه مفعول به على السّعة ؛ لأنّ الكاف في «كما» وصف لمصدر محذوف ، والمصدر إذا وصف لم يعمل ، وكذلك اسم الفاعل.
ولا يجوز أن ينتصب بالصيام المذكور في الآية ؛ لأنه مصدر ، وقد فرّق بينه وبين أيام بقوله : (كَما كُتِبَ) ، ويعمل فيه المصدر كالصّلة ، ولا يفرق بين الصلة والموصول بأجنبي.
وإن جعلت صفة الصيام لم يجز أيضا ؛ لأنّ المصدر إذا وصف لا يعمل.
والوجه أن يكون العامل في أيام محذوفا تقديره : صوموا أيّاما ؛ فعلى هذا يكون أياما ظرفا ؛ لأنّ الظرف يعمل فيه المعنى.
ويجوز أن ينتصب أياما بكتب ؛ لأن الصيام مرفوع به ، وكما : إمّا مصدر لكتب أو نعت للصيام ، وكلاهما لا يمنع عمل الفعل ، وعلى هذا يجوز أن يكون ظرفا ومفعولا به على السّعة.
(أَوْ عَلى سَفَرٍ) : في موضع نصب معطوفا على خبر كان ، تقديره : أو كان مسافرا ؛ وإنما دخلت «على» هاهنا ؛ لأنّ المسافر عازم على إتمام سفره ، فينبغي أن يكون التقدير : أو كان عازما على إتمام سفر.
و «سفر» هنا نكرة يراد به سفر معيّن ؛ وهو السّفر إلى المسافة المقدرة في الشرع.
(فَعِدَّةٌ) : مبتدأ ، والخبر محذوف : أي فعليه عدّة ، وفيه حذف مضاف ؛ أي صوم عدّة.
ولو قرئ بالنصب لكان مستقيما ، ويكون التقدير : فليصم عدّة. وفي الكلام حذف تقديره : فأفطر فعليه.
و (مِنْ أَيَّامٍ) : نعت لعدّة.
و (أُخَرَ) : لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام ؛ لأنّ الأصل في «فعلى» صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر ، والصّغرى والصّغر.
(يُطِيقُونَهُ) : الجمهور على القراءة بالياء.
وقرئ «يطوّقونه» ـ بواو مشدّدة مفتوحة ، وهو من الطّوق الذي هو قدر الوسع. والمعنى يكلفونه.
(فِدْيَةٌ) : يقرأ بالتنوين ، و («طَعامُ)» ـ بالرفع ـ بدلا منها ، أو على إضمار مبتدأ ؛ أي هي طعام.
و (مِسْكِينٍ) ـ بالإفراد ، والمعنى أنّ ما يلزم بإفطار كلّ يوم إطعام مسكين واحد.
ويقرأ بغير تنوين ، وطعام بالجر ، ومساكين بالجمع ، وإضافة الفدية إلى الطعام إضافة الشيء إلى جنسه ، كقولك : خاتم فضّة ؛ لأنّ طعام المسكين يكون فدية وغير فدية.
وإنما جمع المساكين ؛ لأنه جمع في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ؛ فقابل الجمع بالجمع ؛ ولم يجمع فدية لأمرين :
أحدهما ـ أنها مصدر ، والهاء فيها لا تدلّ على المرة الواحدة ؛ بل هي للتأنيث فقط.
والثاني ـ أنه لمّا أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
والطعام هنا بمعنى الإطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء.
ويضعف أن يكون الطعام هو المطعوم ، لأنه أضافه إلى المسكين ؛ وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه ؛ فلو حمل على ذلك لكان مجازا ؛ لأنه يكون تقديره : فعليه إخراج طعام يصير للمساكين ؛ ولو حملت الآية عليه لم يمتنع ؛ لأنّ حذف المضاف جائز ، وتسمية الشيء بما يؤول إليه جائز.
(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) : الضمير يرجع إلى التطوّع ، ولم يذكر لفظه ؛ بل هو مدلول عليه بالفعل.
(وَأَنْ تَصُومُوا) : في موضع رفع مبتدأ ؛ و (خَيْرٌ) خبره ؛ و (لَكُمْ) : نعت لخير ، و (إِنْ كُنْتُمْ) شرط محذوف الجواب ؛ والدالّ على المحذوف أن تصوموا.
١٨٥ ـ (شَهْرُ رَمَضانَ) : في رفعه وجهان :
أحدهما ـ هو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي شهر ، يعني الأيام المعدودات ؛ فعلى هذا يكون : (الَّذِي أُنْزِلَ) : نعتا للشهر ، أو لرمضان. والثاني ـ هو مبتدأ ، ثم في الخبر وجهان :
أحدهما : الذي أنزل.
والثاني : أنّ الذي أنزل صفة ؛ والخبر هو الجملة التي هي قوله : (فَمَنْ شَهِدَ).
فإن قيل : لو كان خبرا لم يكن فيه الفاء ؛ لأنّ شهر رمضان لا يشبه الشرط.
قيل : الفاء على قول الأخفش زائدة ، وعلى قول غيره ليست زائدة ؛ وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بالذي ، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس الذي ؛ ومثله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).
فإن قيل : فأين الضّمير العائد على المبتدأ من الجملة؟
قيل : وضع الظاهر موضعه تفخيما ؛ أي فمن شهده منكم ، كما قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء |
|
بغض الموت ذا الغنى والفقيرا |
أي لا يسبقه شيء.
و «من» هنا شرطية مبتدأة ؛ وما بعدها الخبر.
ويجوز أن تكون بمعنى الذي ، فيكون الخبر فليصمه.
و (مِنْكُمُ) : حال من ضمير الفاعل ؛ ومفعول «شهد» محذوف ؛ أي شهد المصر.
و (الشَّهْرَ) : ظرف ، أو مفعول به على السعة.
ولا يجوز أن يكون التقدير : فمن شهد هلال الشهر ؛ لأنّ ذلك يكون في حق المريض والمسافر والمقيم الصحيح ، والذي يلزمه الصوم الحاضر بالمصر إذا كان صحيحا.
وقيل : التقدير : هلال الشهر ؛ فعلى هذا يكون الشهر مفعولا به صريحا لقيامه مقام الهلال. وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما ـ ما قدمنا من لزوم الصوم على العموم ، وليس كذلك.
والثاني ـ أن شهد بمعنى حضر ، ولا يقال حضرت هلال الشهر ؛ وإنما يقال : شاهدت الهلال.
والهاء في (فَلْيَصُمْهُ) ضمير الشّهر ، وهي مفعول به على السعة ؛ وليست ظرفا ؛ إذ لو كانت ظرفا لكانت معها «في» ، لأنّ ضمير الظّرف لا يكون ظرفا بنفسه.
ويقرأ «شهر رمضان» بالنصب ، وفيه ثلاثة أوجه :