الباب الأوّل
في بيان الامتحان بميل النفوس إلى ما اعتادت به ونشأت فيه ، والنهي عن متابعة ذلك ببذل الجهد في تحقيق الحقّ وقبوله .
اعلم أنّ اللّه عزوجل ، حيث فطر الناس على الاُنس ، جعل ممّا امتحنهم به ميل طبائعهم إلى ما نشأوا فيه ، واعتادوا به وشبّوا عليه ، مثل : حبّ طريقة آبائهم وأسلافهم وكبرائهم ، وأخذ أطوارهم ، واقتفاء آثارهم ، بحيث إنّه قد يرسخ ذلك في قلوبهم رسوخاً لا تظهر لهم عيوبه (إن كان معيوباً) (١) ، ولا تنكشف عليهم حقيقة خلافه إن كان باطلاً ، ولا يزول اعتقادهم به وإن كان خلافه في غاية الظهور ، بل كثيراً ما يلجئهم ذلك إلى الإغماض عن السعي في هذا الانكشاف ، بل إلى التعمّد في التشكيك والسعي في إخفاء الحقّ ، وتحريف ما يستبان به .
وليس لهذا الداء دواء ، إلاّ تصفية القلب عن شوب هذا الميل ، وجعل الطرفين عند إرادة تحقيق الحقّ متساويين ، فإنّ من فعل هذا ألقى اللّه الحقّ في قلبه ، وهداه إلى طريقه ، كما قال سُبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (٢) ؛ ولهذا قد أخبر اللّه بذلك ، ونهى عباده عن تلك
__________________
(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .
(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٩ .