توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامّة لحلولها. كما أنّ دقّة البحث في النظريات الاصولية تنعكس على صعيد التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات أوفر وأدقّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقّةً وعمقاً أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتين : الاصولية والفقهية يؤكّده تأريخ العِلمَين على طول الخطّ ، وتكشف عنه بوضوحٍ دراسة المراحل التي مرَّ بها البحث الفقهيّ والبحث الاصوليّ في تأريخ العلم ، فقد نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.
ولم يكن علم الاصول مستقلاًّ عن علم الفقه في البداية ، ومن خلال نموِّ علم الفقه واتّساع افق التفكير الفقهيِّ أخذت الخيوط العامّة والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشّف ، وأخذ المُمارِسون للعمل الفقهيّ يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامّةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعيّ بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد علم الاصول ، واتّجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً ، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف ، وأخذ يتّسع ويثرى تدريجاً من خلال نموِّ الفكر الاصوليِّ من ناحية ، وتبعاً لتوسّع البحث الفقهيِّ من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهيّ كان يلفت أنظار الممارِسين إلى مشاكل جديدة ، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة ، وتتَّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول.
وكلّما بَعُد الفقيه عن عصر النصّ تعدّدت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية ، وتنوّعت الفجوات في عملية الاستنباط