فهذا الكتاب يكشف لنا عن عظيم بلوى ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في تلك المحنة أيام ابن الزبير ، حتى استساغا على مضض وفضّلا تجرّع مرارة المصافاة مع عبد الملك على مجافاة ابن الزبير وهما كأسان أحلاهما مرّ.
ومرّ بنا ( ثانياً ) قول البلاذري في روايته : « ولمّا أخرج عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية عن مكة أغلظ له ابن عباس وقال له : أتخرج بني عبد المطلب عن حرم الله وهم أحق به منك ... ».
وزاد ابن الأثير في روايته على ذلك التعتيم بما يثير التساؤل ، فقال : « فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره » (؟).
فليت شعري ما الّذي جرى من كلام استعظم ابن الأثير فكره ذكره (؟) إنّه التضبيب والتعتيم لإخفاء الحقائق ، وهذا ليس بمستساغ ولا بمقبول من مؤرخ ينبغي أن يستعمل عقله فيضعه فوق قلبه ، ويدرك عظم الأمانة الّتي تحمّل وزرها ، ألا ساء ما يفعلون وما يزرون وما يحكمون. ومهما كانت غلظة الكلام فلن تبلغ ما قرأناه وما سنقرؤه من محاورات جرت بينهما هي بالمحاربات الكلامية أشبه ، فثمة عتاب هو أقسى من عقاب ، وثمة جواب هو أفظع من سباب ، فلماذا الكراهة ، إنّها البلاهة!
ألم يقل ابن عباس لابن مطيع وقد أتاه من قبل ابن الزبير برسالة فيها تهديد ووعيد فقال له ابن عباس : « قل لابن الزبير يقول لك ابن عباس ثكلتك أمك ... »؟ وقد مرّ ذلك في الشاهد الأوّل فراجع.
ألم يقل لابن الزبير ـ كما في الشاهد الثالث وقد مرّ ـ بعد أن عيّره بالعمى فقال له : « بل أعمى الله قلبك ، وقال له : والله لأنا أفقه منك ومن أبيك »؟