أكرمت المسيء لتأديبه ، وما أهنت المحسن لمكافأته» ، إذ لو علّق هذا بالفعل فسد المعنى المراد ؛ ومن ذلك قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢) [القلم : ٢] الباء متعلّقة بالنفي ، إذ لو علقت بـ «مجنون» لأفاد نفي جنون خاصّ ، وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله تعالى ، وليس في الوجود جنون هو نعمة ، ولا المراد نفي جنون خاص ، ا ه ملخّصا.
وهو كلام بديع ، إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحّة التعلّق بالحرف ، فينبغي على قولهم أن يقدّر أن التعلّق بفعل دلّ عليه النافي ، أي : انتفى ذلك بنعمة ربك.
وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب رضي الله تعالى عنه ، أن المختار تعلّق الظرف بمعنى التّشبيه الذي تضمّنه البيت ، وذلك على أن الأصل : «وما كسعاد إلّا ظبي أغنّ» ، على التشبيه المعكوس للمبالغة ، لئلا يكون الظّرف متقدّما في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التّشبيه ، وهذا الوجه هو اختيار ابن عمرون ، وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل في الحال في نحو قوله [من الطويل] :
٥٦٧ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا |
|
لدى وكرها ، العنّاب والحشف البالي (١) |
مع أن الحال شبيهة بالمفعول به ، فعمله في الظرف أجدر.
فإن قلت : لا يلزم من صحّة إعمال المذكور صحة إعمال المقدّر ، لأنه أضعف.
قلت : قد قالوا : «زيد زهير شعرا وحاتم جودا» ، وقيل في المنصوب فيهما : إنه حال أو تمييز ، وهو الظّاهر ، وأيّا كان فالحجّة قائمة به ، وقد جاء أبلغ من ذلك ، وهو إعماله في الحالين ، وذلك في قوله [من المتقارب] :
٥٦٨ ـ تعيّرنا أنّنا عالة |
|
ونحن صعاليك أنتم ملوكا (٢) |
إذ المعنى : تعيّرنا أنّنا فقراء ، ونحن في حال صعلكتنا في حال ملككم.
فإن قلت : قد أوجبت في بيت كعب بن زهير ، رضياللهعنه ، أن يكون من عكس التّشبيه لئلا يتقدّم الحال على عاملها المعنويّ ، فما الذي سوّغ تقدّم «صعاليك» هنا عليه؟
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٤ ، ولسان العرب ١ / ٢٠٦ مادة / أدب /.
(٢) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ٧ ، وتذكرة النحاة ص ١٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٣٧.