ألا ترى أنه يقال «تزوّج فلان فولد له» ، إذا لم يكن بينهما إلا مدّة الحمل ، وإن كانت متطاولة ، و «دخلت البصرة فبغداد» إذا لم تقم في البصرة ولا بين البلدين ، وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، وقيل : الفاء في هذه الآية للسببيّة ، وفاء السببيّة من المهلة. وقيل : تقع الفاء تارة بمعنى «ثمّ» ، ومنه الآية ، وقوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ...
______________________________________________________
القريب بالنسبة إلى طول زمان أمر يقضي العرف بحصوله في زمن أقل منه ، قلت : والذي يظهر من كلام جماعة أن استعمال الفاء فيما تراخى زمان وقوعه عن الأول سواء استقصر في العرف أو لا إنما هو بطريق المجاز ، وظاهر كلام المصنف أن استعمالها فيما يعد بحسب العادة تعقيبا وإن طال الزمن استعمال حقيقي (ألا ترى أنه يقال : تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما) أي : بين التزوج والولادة (إلا مدة الحمل ، وإن كانت مدة متطاولة و) يقال : (دخلت البصرة فبغداد ؛ إذا لم يقم في البصرة ولا بين البلدين) بل اتصل السير ولم يقع اشتغال بما يعد في العرف أجنبيا من السفر من هذه إلى تلك (وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)) ومعلوم أن اخضرار الأرض لا يعقب نزول المطر بل يقع بعد مهلة وتراخ (وقيل : الفاء في هذه الآية للسببية) لا للعطف (وفاء السببية لا تستلزم التعقيب ، بدليل صحة قولك إن يسلم فهو يدخل الجنة ، ومعلوم ما بينهما من المهلة) العظيمة ، وبهذا أجاب ابن الحاجب في «أمالي القرآن» واستدل التفتازاني على عدم دلالة الفاء الجزائية على لزوم تعقيب الجزاء بمضمون الشرط بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال للقطع بأنه لا يجب السعي عقيب النداء من غير تراخ ، قلت : الحق أن الأصل في الفاء السببية استلزام التعقيب ، وذلك لأن السبب التام يستعقب مسببه من غير تراخ ، ولو كانت الفاء لا تدل على ذلك لم يجز دخولها في الجزاء ، كما لم يجز دخول ثم والواو ، نعم جزاء السبب قد يقع بينه وبين المسبب تراخ لعدم استكمال ما يقتضي وقوع المسبب ، لكن إطلاق السبب على جزئه مجاز ، ومنه إن يسلم فهو يدخل الجنة إذ الإسلام ليس سببا تاما لدخول الجنة ، بل لا بد من استمرار حكمه فمجموع الإسلام واستمرار حكمه هو السبب التام لدخول الجنة ، واستدلال التفتازاني بآية الجمعة غير متجه ؛ لأن السعي يحب عقيب النداء وجوبا موسعا فلا يلزم إيقاعه على الفور ، كالظهر يجب في أول الوقت ولا يجب أداؤه فيه بل هو موسع إلى آخر الوقت ، فكيف يتجه هذا الاستدلال (وقيل : تقع الفاء تارة بمعنى ثم ومنه الآية المتلوة) آنفا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي : ثم تصبح (وقوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)) أي : قطعة دم والمعنى ثم أحلنا النطفة البيضاء علقة