كما هي العادة فيمن ادعى على خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه ، كما اذا قال لك من يحاجك في مسألة : أنت من دأبك كيت وكيت ، فتقول : نعم أنا من دأبي كيت وكيت لكن لا ضير عليّ ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت ، فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا : إن ما قلتم هو كما قلتم ، لكن ذلك لا يمنع الرسل وفضل الله علينا.
(٥) ان الأصل في إنما أن تجيء لأمر من شأنه ألا يجهله المخاطب ولا ينكره وإنما يراد تنبيهه فقط ، أو لما هو منزل هذه المنزلة.
تفسير هذا أنك تقول للرجل : إنما هو صاحبك القديم ، وإنما هو أخوك ، لمن يعلم ذلك ويعترف به ، لكنك تريد أن تنبهه لما يجب عليه من حرمة الصاحب وحق الأخوة لترققه وتستعطف قلبه ، ألا ترى الى أبي الطيب حين يقول :
إنما أنت والد والأب القا |
|
طع أحني من واصل الأولاد |
لم يرد أن يعلم كافورا أنه لابن الأخشيد مولاه بمنزلة الوالد ، ولا كافور في حاجة إلى أن يعلم بذلك ، لكنه أراد أن يذكره بالأمر المعلوم ليجعله ذريعة إلى استدعاء ما يستوجبه من العطف والحنان ، ونظير ذلك قولهم : إنما يعجل من يخشى الفوت ، وقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(١). وأما ما هو منزل هذه المنزلة فكقوله تعالى حكاية عن اليهود : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(٢) ، فهم قد ادعوا أن اصلاحهم أمر جلي ظاهر ، ولذا جاء الرد عليهم مؤكدا بأن واسمية الجملة وتعريف الخبر باللام وضمير الفصل وتصدير حرف التنبيه حيث قال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(٣). ونحو ذلك قول ابن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهاب من الله |
|
تجلت عن وجهه الظلماء |
حيث ادعى أن ثبوت هذه الصفة لممدوحه أمر ظاهر ، لا يخفى على أحد ، كما هو دأب الشعراء اذا مدحوا أن يدعوا الشهرة فيما يصفون به ممدوحهم ، ألا ترى الى البحتري حين يقول :
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة |
|
حتى يسلمها اليه عداه |
__________________
(١) سورة الأنعام الآية ٣٦.
(٢ و ٣) سورة البقرة الآيتان ١١ و ١٢.