وليست فضيلة قولنا : جم الرماد على قولنا كثير القرى أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني بل هي أن الأول أفاد تأكيد الإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني ، وذلك أن كل عاقل يعلم أن إثبات الصفة بإثبات دليلها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء اليها فتثبتها هكذا ساذجا عقلا ، وذلك أنك لا تدعي دليل الصفة إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط ، كذا في «دلائل الإعجاز» مع اختصار.
أسرار البلاغة في الكناية
الكناية فن من التعبير توخاه العرب استكثارا للألفاظ التي تؤدي ما يقصد من المعاني ، وبها يتنوفون في الأساليب ، ويزينون ضروب التعبير ، ويكثرون من وجوه الدلالة ، انظر الى امريء القيس تجده كنى عن المرأة ببيضة الخدر في قوله :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها |
|
تمتعت من لهو بها غير معجل |
وإلى حميد بن ثور نراه كنى عنها بالسّرحة في قوله :
أبى الله إلا أن سرحة مالك |
|
على كل أفنان العضاه (١) تروق |
فيا طيب رياها وبرد خلالها |
|
اذا حان من حامي النهار وديق (٢) |
وإلى النبي عليهالسلام وقد كنى عنها بالقارورة في قوله لأنجشه وهو يحدو بنسائه : «رفقا بالقوارير» ، وبها ينصبون الدليل على كل قضية ويقيمون البرهان على كل مدعي ، انظر الى المتنبي وهو يذكر وقيعة سيف الدولة بأعدائه :
فمسّاهم وبسطهم حرير |
|
وصبّحهم وبسطهم تراب |
تجده قد أراد أن يبين أنه قهرهم وأذلهم بعد أن كانوا أعزة ، لكنه تلطف في التعبير ونصب الدليل على صحة دعواه ، فأشار الى عزتهم أولا بافتراشهم بسط الحرير ، ثم الى ذلتهم بعد بافتراشهم بسط التراب.
وتأسل قول أبي تمام يمدح أبا سعيد بن يوسف الثغري ويذكر كرمه :
أبين فما يزرن سوى كريم |
|
وحسبك أن يزرن أبا سعيد |
__________________
(١) شجر عظيم شائك.
(٢) شدة الحر في الهاجرة.