قواصد كافور توارك غيره |
|
ومن قصد البحر استقل السواقيا |
فصوّر لك ما يلقاه قاصدو ممدوحه من الغنى والثروة ، وأن من لا يبغي سواه ، كما أن من قصد البحر تأبى همته أن ينظر الى الجداول والغدران.
وهذه استعارة تمثيلية لها أثرها من البهجة والجمال الذي تحس به وتتذوقه ، وقول أبي نواس في الفضل بن الربيع :
وكلت بالدهر عينا غير غافلة |
|
من جود كفك تأسو كل ما جرحا |
فأضاف الجود الى الكف ، والجود ينسب عادة الى الممدوح من قبيل إضافة ما للكل الى الجزء على سبيل المجاز المرسل ، وقول مسلم :
تظلم المال والأعداء في يده |
|
لا زال للمال والأعداء ظلاما |
إذ كنى عن كثرة عطاياه وقتاله للأعداء وإفنائه إياهم بالتظلم من يده.
وللكناية أثرها البعيد في تثبيت المعنى في النفس وحسن تصويرها ، فهي تهش له وترتاح.
فها أنت ذا قد رأيت في وصف الجود ضروبا وألوانا مختلفة من التعبير وفنونا شتى من القول ، وهكذا ينفسح مجال الكلام أمام البليغ ، وتتشعب طرقه في أي معنى من المعاني التي يقصد القول فيها ، ولكن بعضها كما رأيت أبلغ من بعض بالنظر الى مقتضيات الأحوال ، فما يصلح لمقام لا يصلح مثله لآخر ، وهذا هو سر البلاغة ، فقد يكون المقام داعيا الى التشبيه لا الاستعارة ، وقد يكون الأنسب العكس ، فقد يكون المقام يدعو الى الكناية.
فتلك الصور المختلفة والأساليب المتنوعة هي موضوع علم البيان الذي درست مسائله ، فإذا أنت جعلتها رائدك في صوغ المعاني ، هدتك الصراط المستقيم ، وبلغت بك الغاية التي تسعى اليها.
ولكن دراسة العلم وحدها ، والوقوف على شواهد يسيرة من كلام الفصحاء والبلغاء لا يبلغان بك الى المقصد ، كما لو درست قواعد الحساب مثلا وحللت مسائل قليلة لكل قاعدة ، فإن هذا لا يكسبك الملكة التي بها تستطيع أن تحل كثيرا من المسائل ، بل لا بد للملكة من التمرين وممارسة حل كثير من المسائل المختلفة ، حتى تتكون لديك.