ومما سبق تعلم أن :
(١) الحال (المقام) هو الأمر الذي يدعو المتكلم الى إيراد خصوصية في التركيب.
(٢) المقتضى (الاعتبار المناسب) هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة.
(٣) مقتضى الحال هو إيراد الكلام على تلك الصورة.
فمثلا الوعظ حال ومقام يقتضي البسط والأطناب ، وذلك البسط مقتضى ، وإيراد الكلام على صورة الأطناب مطابقة للمقتضى.
وكذا كون المخاطب منكرا يوم البعث حال يقتضي التأكيد ، والتأكيد مقتضى ، وكونك تخاطبه بقولك «إن يوم الساعة لا شك فيه» مطابقة لمقتضى الحال ، وهكذا مقام الذكي يخالف في الخطاب مقام الغبى ، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ، لأن لكل منهما من الاعتبارات واللطائف وما يخالف ضده.
مراتب البلاغة
بلاغة الكلام متفاوتة ، لأن الألفاظ اذا ركبت لإفادة المعاني المرادة منها حصل لها بالتركيب صور مختلفة لا يحصرها العد ، ألا ترى أن طلبة الفرقة اذا كتبوا في موضوع واحد في منشئاتهم تناولوا معاني متقاربة ، أو متشابهة ، لكنهم يتفاوتون في الأشياء الآتية :
(١) العبارة التي ينشئونها.
(٢) ترتيب المعاني.
(٣) بسط الألفاظ أو إيجازها.
وكلما كان المتكلم أكثر مراعاة للمقتضيات والاعتبارات ازداد الكلام حسنا وكلما كان أوفى بها كان أبلغ ، وبالعكس اذا قل وفاؤه بتلك الخصوصيات المعتبرة عند البلغاء كان أقل مرتبة في البلاغة ، ولا يزال ينزل حتى يصل الى المرتبة السفلى ، فيلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوان ، وإن كان صحيح الإعراب.
والمرتبة العليا وما يقرب منها هي مرتبة المعجز ، وهو كلام الله تعالى الذي عجز البشر قاطبة أن يأتوا بأقصر سورة من مثله ، وقد نزل في أرقى العصور