وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به ، وأنه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحلّ عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش ، وصاحب الأبنية لما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره ، قال : وكان له دخالة كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم ، حاشا الصيد والطير والحيتان ، وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء ، قال : وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة ، انتهى.
ومن المطمح : أن المنصور لما فرغ من بناء الزاهرة غزا غزوة وأبعد فيها الإيغال وغال فيها من عظماء الروم من غال (١) ، وحل من أرضهم ما لم يطرق ، وراع منهم ما لم يرع قط ولم يفرق (٢) ، وصدر صدرا سما به على كل حسناء عقيلة ، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة ، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد ، وشهد له فيها يوم مثله لم يشهد ، وكان ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده (٣) ، وحداه منتجعه ورائده ، وابن شهيد هذا أحد حجاب الناصر ، وله على ابن أبي عامر أياد محكمة الأواصر ، وهو الذي نهض به أول انبعاثه ، وشفى أمره زمن التياثة ، وخاصم المصحفي عنه بلسان من الحماية ألدّ ، وتوخاه بإحسان قلده من الرعاية ما قلد ، وأسمى رتبته ، وحلّى بإعظام جاهه لبّته (٤) ، وكان كثيرا ما يتحفه ، ويصله ويلطفه ، فلما صدر المنصور من غزوته هذه وقفل ، نسي متاحفته وغفل ، فكتب إليه ابن شهيد : [الخفيف]
أنا شيخ والشّيخ يهوى الصّبايا |
|
يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا |
ورسول الإله أسهم في الفي |
|
ء لمن لم يخبّ فيه المطايا |
فاجعلنّي فديت أشكر معرو |
|
فك وابعث بها عذاب الثّنايا |
فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم يكنفها ثلاث جوار ، كأنهن نجوم سوار ، وكتب إليه : [الخفيف]
قد بعثنا بها كشمس النّهار |
|
في ثلاث من المها أبكار |
فاتّئد واجتهد فإنّك شيخ |
|
سلخ اللّيل عن بياض النّهار |
__________________
(١) غال (يغول غولا) الرجل : أخذه من غير أن يعلم فقتله.
(٢) يفرق : يخاف خوفا شديدا.
(٣) النقرس : مرض مؤلم يصيب مفاصل الرجل لا سيما إبهامها.
(٤) في ب : بإعظام جيده ولبته.