وقال رضي الله تعالى عنه في قول سمنون المحب : [مخلع البسيط]
وليس لي في سواك حظّ |
|
فكيفما شئت فاختبرني |
الأولى أن يقول : فكيفما شئت فاعف عني ، إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار.
وقال رضي الله تعالى عنه : الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة ، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال رضي الله تعالى : العارف لا دنيا له ، لأن دنياه لآخرته ، وآخرته لربه. وقال : الزاهد غريب في الدنيا ، لأن الآخرة وطنه ، والعارف غريب في الآخرة. قال بعض العارفين : معنى الغربة في كلام الشيخ رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشّش روحه (١) ، فيكون غريبا في الدنيا ، إذ ليست وطنا لقلبه (٢) ، عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها ، وفيما شهد من عقوبتها ونكالها ، فتغرب في هذه الدار. وأما العارف فإنه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك ، فصار غريبا في الآخرة ، لأن سره مع الله تعالى بلا أين ، فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشّش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق ، أو أرض الخصوص ، فبالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة ، ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين ، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين ، رضي الله تعالى عنهم ، ونفعنا بهم آمين!.
وكلام سيدي الشيخ أبي العباس رضي الله تعالى عنه بحر لا ساحل له ، وكراماته كذلك ، وليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله ، فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي ، وما بقي أكثر.
ومن كراماته رضي الله تعالى عنه أنه عزم عليه إنسان وقدم إليه طعاما يختبره به ، فأعرض عنه ولم يأكله ، ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له : إن الحارث (٣) المحاسبي رضي الله تعالى عنه كان في أصبعه عرق إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه ، وأنا في يدي سبعون عرقا تتحرك علي إذا كان مثل ذلك ، فاستغفر صاحب الطعام ، واعتذر إلى الشيخ ، رضي الله تعالى عنه ونفعنا به!.
١١٧ ـ ومنهم أبو إسحاق الساحلي ، المعروف بالطّويجن ـ بضم الطاء المهملة ، وفتح
__________________
(١) معشّش : اسم مكان من الفعل عشّش.
(٢) في ه : إذ ليست بوطن لقلبه.
(٣) الحارث المحاسبي : هو الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد المشهور أبو عبد الله البغدادي صاحب التصانيف. مات سنة ثلاث وأربعين. (تقريب التهذيب ج ١ ص ١٣٩).