واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ ، وإنما هي هراة بني شيمانة بالحجاز ، وبها كان سكنى أبي ذر ، والله تعالى أعلم.
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى ـ ثم إنه ـ أعني الباجي ـ قدم بغداد ، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه ، ويقرأ الحديث ، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي ، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام ؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله ، وفي الفقه وغوامضه وخلافه. وفي الكلام ومضايقه ، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر ، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما! ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمّ حصّله مع الفقر والتّعفّف.
ومما يفتخر به أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي ، وناهيك بهما ، وهما أسنّ منه وأكبر ، وأبو عبد الله الحميدي ، وعلي بن عبد الله الصّقلي ، وأحمد بن علي بن غزلون ، وأبو بكر الطرطوشي ، وأبو علي بن الحسين السّبتي ، وأبو بحر سفيان بن العاصي ، وممن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد ، وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه ، وتهيأت الدنيا له ، وعظم جاهه ، وأجزلت له الصّلات ، فمات عن مال وافر ، وترسل للملوك (١) ، وولي القضاء بعدة مواضع ، رحمه الله تعالى!.
وأما ما تقدم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض ، والصواب خلافه ، قال القاضي أبو الفضل عياض : حدّثنا محمد بن علي المعروف بابن الصيقل الشاطبي من لفظه ، قال : حدثني أبو الحسن بن مفوز قال : كان أبو محمد بن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممن لازم الباجي وتفقه عنده ، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته ، ويعجب به ، وكنت أنكر ذلك عليه ، فلما كان بعد برهة أتاني زائرا على عادته ، وأعلمني أن رجلا من إخوانه كان يرى في النوم أنه بالمدينة ، وأنه يدخل المسجد ، فيرى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامه ، فتحدث (٢) له قشعريرة وهيبة عظيمة ، ثم يراه ينشقّ ويميد ، ولا يستقر ، فيعتريه منه فزع عظيم ، وسألني عن عبارة رؤياه ، فقلت : أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير صفته ، أو ينحله (٣) ما ليس له بأصل (٤) ، أو لعله يفتري
__________________
(١) ترسل : كتب الرسائل.
(٢) في ب ، ه : فيجد له قشعريرة.
(٣) ينحله : ينسب إليه.
(٤) في ه : ما ليس له بأهل.