وكان أبو الحكم المذكور فاضلا في العلوم الحكمية ، متقنا للصناعة الطبية ، حسن النادرة ، كثير المداعبة ، محبا للهو والخلاعة والشراب ، وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود ، ويجلس في دكان بجيرون للطب ، وسكناه باللبادين (١) ، وأتى في ديوانه «نهج الوضاعة» بكل غريب ، يدل على أنه أريب ، سامحه الله تعالى وغفر له!.
٧٦ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق : من هو الأحق بالتقديم والسبق ، الشهير عند أهل الغرب والشرق ، الحافظ المقرئ الإمام الرباني ، أبو عمرو الدّاني ، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر ، الأموي ، مولاهم ، القرطبي ، صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير.
وعرف بالداني لسكناه دانية ، وولد سنة ٣٧١ ، وابتدأ بطلب العلم سنة ٣٨٧ ورحل إلى المشرق سنة ٣٩٧ ، فمكث بالقيروان أربعة أشهر ، ودخل مصر في شوّالها ، فمكث بها سنة ، وحج ، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة ٣٩٩ ، وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة ، وعلى أبي الحسن بن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد ، وسمع من أبي مسلم الكاتب ، وهو أكبر شيخ له ، ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري ، وحاتم بن عبد الله البزار ، وغير واحد من أهل مصر وسواها ، وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي ، وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس ، وتلا عليه خلق منهم مفرج الأقفالي وأبو داود بن نجاح صاحب التنزيل في الرسم ، وهو من أشهر تلامذته ، وحدث عنه خلق كثير ، منهم خلف بن إبراهيم الطّليطلي.
قال أبو محمد عبيد الله الحجري : ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه ولا (٢) يضاهيه في حفظه وتحقيقه ، وكان يقول : ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ، ولا كتبته إلا حفظته ، ولا حفظته فنسيته.
قال ابن بشكوال : كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه ، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا ، وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه وأسماء رجاله ، وكان حسن الخط والضبط ، من أهل الحفظ والذكاء واليقين ، وكان دينا فاضلا ورعا سنيا.
__________________
(١) جيرون : اسم باب من أبواب دمشق. واللبادين : اسم شارع من شوارع دمشق أيضا.
(٢) في ب : يدانيه ويضاهيه.