لا يعرف الباحث عنه له حدا ، وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها ، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة ، وجعلناها نغبة (١) يشفي المشوق بها غليله ، وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنه لا يجدي ، ولا يدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي ، ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب ، المجرع لصاحبه الصاب والأوصاب (٢).
قال أبو عمر بن عبد البر : [الكامل]
عفت المنازل غير أرسم دمنة |
|
حيّيتها من دمنة ورسوم |
كم ذا الوقوف ولم تقف في منسك |
|
كم ذا الطّواف ولم تطف بحريم |
فكل الدّيار إلى الجنائب والصّبا |
|
ودع القفار إلى الصّدى والبوم |
(٣) انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار.
رجع إلى قرطبة ـ فنقول : وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمّة (٤) ، ونص محل الحاجة منه هنا : ثم كان الغزو إلى أم البلاد ، ومثوى الطارف والتّلاد ، قرطبة ، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل ، والكرسيّ الذي بعصاه رعي الهمل ، والمصر [المعمور (٥)] الذي في خطه (٦) الناقة والجمل ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل (٧) ، فخيم الإسلام في عقرتها المستباحة (٨) ، وأجاز نهرها المعيي على السباحة ، وعم دوحها الأشب بوارا ، وأدار المحلات بسورها سوارا ، وأخذ بمخنّقها حصارا ، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصارا ، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا (٩) ، فأعمال إلى المسلمين
__________________
(١) في ج : نبعة ، والنبغة : الجرعة.
(٢) الصاب : شجر مر الطعم. والأوصاب : جمع وصب ، وهو المرض ، والألم الدائم.
(٣) الجنائب : جمع جنوب ، وهي الريح التي تهب من ناحية الجنوب.
(٤) ثمة : هناك.
(٥) في ب : ما بين حاصرتين غير موجود.
(٦) في ب : الذي له في خطة.
(٧) العبشمية : النسبة إلى عبد شمس.
(٨) في ب : عقوتها المستباحة.
(٩) الانجحار : الدخول في الجحر.