تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حدّه ؛ قال : فقال لي : لست بفقيه ، ولا أدري ما فيه ، ولكني أقمت خزانة كتب ، واحتلفت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد ، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب ، فلما رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته ، ولم أبال بما أزيد فيه ، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير ، قال الحضرميّ : فأحرجني ، وحملني على أن قلت له : نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك ، يعطي الجوز من لا له أسنان (١) ، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب ، وأطلب الانتفاع به ، يكون الرزق عندي قليلا ، وتحول (٢) قلة ما بيدي بيني وبينه.
قال ابن سعيد : وجرت مناظرة بين يدي منصور بن عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر ، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه : ما أدري ما تقول ، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.
وسئل ابن بشكوال عن قصر قرطبة (٣) ، فقال : هو قصر أوليّ تداولته ملوك الأمم من لدن عهد موسى النبيّ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف ، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان (٤) ـ منذ فتح الله عليهم الأندلس بما فيها ـ في قصرها البدائع الحسان ، وأثروا فيه الآثار العجيبة ، والرياض الأنيقة (٥) ، وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة ، وتموّنوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم (٦) ، وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرّصاص تؤدّيها منها إلى المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرّخام الرّومية المنقوشة العجيبة.
قال : وفي هذا القصر القصاب العالية السموّ ، المنيفة العلوّ ، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها.
__________________
(١) في ب : من لا عنده أسنان.
(٢) تحول : تمنع ، تحجز.
(٣) في ب : ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة قال :
(٤) بنو مروان : بنو مروان بن الحكم الخليفة الأمويّ.
(٥) في ب ، ه : والرياض المونقة.
(٦) في ب ، ه : القصر المكرّم.