وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدخر ، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار ، وأما أخماس الغنيمة (١) فلا يحصيها ديوان.
وقد سبق هذا كله ، وإنما كررته لقول بعضهم إثر حكايته له ، ما صورته : وقيل : إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة ، وقيل : إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وسبعة أقفزة (٢) من الدراهم المذكورة ، واتصل بنيان الزهراء أيام الناصر خمسا وعشرين سنة شطر خلافته ، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها ، وكانت خمسة عشر عاما وأشهرا ، فسبحان الباقي بعد فناء الخلق ، لا إله إلا هو ، انتهى.
وقال ابن أصبغ (٣) الهمداني والفتح في المطمح : كان الناصر كلفا بعمارة الأرض ، وإقامة معالمها ، وانبساط مجاهلها (٤) ، واستجلابها من أبعد بقاعها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلوّ الهمة ، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره ، الذائع خبره ، المنتشر صيته في الأرض (٥) ، واستفرغ جهده (٦) في تنميقها ، وإتقان قصورها ، وزخرفة مصانعها ، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات ، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكير (٧) بالإنابة والرجوع ، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) ـ إلى قوله تعالى : (مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء الآية : ١٢٨ ـ ١٣٦] ثم وصله بقوله : فمتاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، وهي دار القرار ، ومكان الجزاء ، ومضى في ذم تشييد البنيان ، والاستغراق في زخرفته ، والإسراف في الإنفاق عليه ، بكل كلام جزل (٨) ، وقول فصل ، قال الحاكي : فجرى فيه طلقا ، وانتزع فيه قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) [التوبة : ١٠٩] إلى
__________________
(١) في ب : الغنائم.
(٢) في ه : ستة أقفزة.
(٣) في ج : ابن البديع ، وهو كما أثبتنا. انظر (أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٧٧ ، والمراقبة العليا ص ٦٩).
(٤) في ب : وانبساط مياهها.
(٥) في ب ، ه : المنتشر في الأرض أثره.
(٦) في ب ، ه : واستفرغ وسعه.
(٧) في ب : والتذكر.
(٨) في ب : بكلام جزل.