٩٢ ـ ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير ، وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل ، المعافري (١) ، وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي.
ولما أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطة القضاء بقرطبة وجّه إليه بباجة ، فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه ، ونزل على صديق له من العبّاد ، فتحدث في شأن استدعائه ، وقدّم أنه يعرف فن (٢) الكتابة ، فقال له العابد : ما أراه بعث فيك إلا للقضاء ، فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاض ، فقال ابن بشير : فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع ، فقال : أسألك عن أشياء ثلاثة ، وأعزم عليك أن تصدقني فيها ، ثم أشير بعد ذلك عليك ، فقال : ما هي؟ فقال : كيف حبّك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره؟ (٣) فقال : والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به رحلي ، فقال : هذه واحدة ، فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات؟ فقال : هذه حال والله ما استشرفت قط إليها ، ولا خطرت ببالي ، ولا اكترثت لفقدها ، فقال : وهذه ثانية ، فكيف حبّك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ فقال : والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمّني ، وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل ، فقال : وهذه الثالثة ، أقبل الولاية فلا بأس عليك ، فقدم قرطبة ، فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة.
قال ابن وضاح : أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلا على باب المسجد الجامع (٤) يوم الجمعة ، وعليه رداء معصفر ، وفي رجله نعل صرّارة (٥) ، وله جمّة مفرقة (٦) ، ثم يقوم فيخطب ويصلي وهو في هذا الزي ، وبه كان يجلس للقضاء بين الناس ، فإن رام أحد من دينه شيئا وجده أبعد من الثريا.
وأتاه رجل لا يعرفه ، فلما رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه ، توقف وقال : دلّوني على القاضي ،
__________________
(١) انظر ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس ص ٤٧ ـ ٥٣. وقد جاء عنه أنه لقي مالك بن أنس عند توجهه إلى حج بيت الله الحرام.
(٢) في ب ، ه : وقدم أنه يصرف في الكتابة.
(٣) الفارة من الدواب : القوي النشيط.
(٤) الجامع : غير موجودة في ب.
(٥) نعل صرارة : أراد أنه يسمع لها صوت إذا سار.
(٦) الجمة ، بضم الجيم : الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن.