الزاهرة قصره العظيم ، وسماه «دار الروضة» وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر ، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ، ثم أخذ في بناء المستنزهات (١) ، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور ، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة ، ثم اختط مدينة الزهراء ، واتخذها لنزله ، وكرسيا لملكه ، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى ، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء ، متباعدة السياج ، ومسارح للطيور مظللة بالشباك ، واتخذ فيها دورا لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن ، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس ، انتهى.
وأما الزهراء فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر.
قال ابن خلدون في (٢) أثناء كلامه على المنصور ما صورته (٣) : وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة ، ونقل إليها جزءا من الأموال والأسلحة ، انتهى.
وقال غيره ، وأظنه صاحب المطمح : وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة ، وذلك عندما تكامل (٤) واستفحل أمره ، واتقد جمره (٥) ، وظهر استبداده ، وكثر حسّادة وأضداده (٦) وأنداده ، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان ، وخشي أن يقع في أشطان (٧) ، فتوثق لنفسه ، وكشف له ما ستر عنه في أمسه ، من الاعتزاز عليه ، ورفع الاستناد إليه ، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ، ويحله بأهله وذويه ، ويضم إليه رياسته ، ويتم به تدبيره وسياسته ، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه ، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة ، الموصوفة بالقصور الباهرة ، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم ، ونسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم ، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة ، وحشد الصناع والفعلة ، وجلب إليها الآلات الجليلة ، وسربلها بهاء يرد الأعين كليلة ، وتوسع في اختطاطها ، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها ، وبالغ في رفع أسوارها ، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها ، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة ، وصار بناؤها من الأنباء الغريبة ، وبنى معظمها في عامين.
__________________
(١) في ب ، ه : المنتزهات.
(٢) في : غير موجودة في ب.
(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٨.
(٤) تكامل و : غير موجودة في ب.
(٥) اتقد جمره : أي علا شأنه.
(٦) وأضداده : غير موجودة في ب.
(٧) أشطان : جمع شطن ، وهو الحبل الطويل.