الكافية (١) ، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها ، قال : فقلت : ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.
ثم قال ابن سعيد : ومن كلام والدي في شأنها : هي من أحسن بلاد الأندلس مباني ، وأوسعها مسالك ، وأبرعها ظاهرا وباطنا ، وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين ، ولأهلها رياسة ووقار ، ولا تزال سمة العلم متوارثة فيهم ، إلا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولا ، وأشدهم تشنيعا وتشغيبا ، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم ، حتى إنّ السيد أبا يحيى بن يعقوب (٢) بن أبي عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له : كيف وجدت أهل قرطبة؟ قال : مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح ، وإن أثقلته به صاح ، ما ندري أين رضاهم فنقصده ، ولا أين سخطهم فنجتنبه (٣) ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامّتها شرّا من عامّة العراق ، وإنّ العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية ، وإني إن كلّفت العود إليها لقائل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين.
قال والدي : ومن محاسنها ظرف اللباس ، والتظاهر بالدين ، والمواظبة على الصلاة ، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم ، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها ، والتّستر بأنواع المنكرات ، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم ، وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا ، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب ، صار ذلك عندهم من آلات التّعيّن والرياسة ، حتى إنّ الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب ، وينتخب فيها ليس إلّا لأن يقال : فلان عنده خزانة كتب ، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره ، والكتاب الذي هو بخطّ فلان قد حصّله وظفر به.
قال الحضرمي : أقمت مرّة بقرطبة ، ولازمت سوق كتبها مدة أترقّب (٤) فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء ، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح (٥) ففرحت به أشدّ الفرح ، فجعلت أزيد في ثمنه ، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ ، إلى أن بلغ فوق حدّه ، فقلت له : يا هذا ، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي ، قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة ، فدنوت منه ، وقلت له : أعزّ الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب
__________________
(١) في ه : الشعرى الكافية.
(٢) أبا يحيى بن أبي يعقوب.
(٣) في ب ، ه : فنتجنبه.
(٤) في ب : أترقب فيها.
(٥) في ب : بخطّ جيد وتسفير مليح.