فأنكرت ذلك بعينها ، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه ، فقال الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك ، ففعلت ، فقال لها (١) : والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك ، فقالت : يا سيدي ، أشار إلي كأنه يقبلني (٢) ، فأنكرت ذلك عليه ، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل ، فرحمه وضمه إليه ، وقال : يا عبد الله ، أتحبها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : هي لك فاخل (٣) بها في تلك القبة ، ففعل ، ثم قال له : هل قلت في هذا الأمر شيئا؟ فقال : نعم يا سيدي ، وأنشد (٤) : [المجتث]
ظبي كنيت بطرفي |
|
من الضّمير إليه |
قبّلته من بعيد |
|
فاعتلّ من شفتيه |
وردّ أخبث ردّ |
|
بالكسر من حاجبيه |
فما برحت مكاني |
|
حتّى قدرت عليه |
وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء : اللحظ ، يعرب عن اللفظ ، وقال آخر : رب كناية تغني عن إيضاح ، ورب لفظ يدل على ضمير ، ونظمه الشاعر فقال : [الطويل]
جعلنا علامات المودّة بيننا |
|
دقائق لحظ هنّ أمضى من السّحر |
فأعرف منها الوصل في لين لحظها |
|
وأعرف منها الهجر بالنّظر الشّزر(٥) |
وفي هذا قال بعض الحكماء : العين باب القلب ، فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر : [البسيط]
العين تبدي الّذي في نفس صاحبها |
|
من المحبّة أو بغض إذا كانا |
فالعين تنطق والأفواه صامتة |
|
حتّى ترى من ضمير القلب تبيانا |
وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح ما نصه (٦) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم ، وبنو حزم فتية علم وأدب ، وثنيّة مجد وحسب ، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد ، لا ينعت ولا يحد ، وهو فارس المضمار ، حامي ذلك الذّمار ، وبطل الرّعيل (٧) ، وأسد ذلك الغيل ، نسق المعجزات ، وسبق في المعضلات الموجزات ، إذا كتب وشّى المهارق ودبج ، وركب من بحر البلاغة الثّبج (٨) ، وكان هو وأبو عامر بن شهيد خليلي صفاء ، وحليفي
__________________
(١) لها : غير موجودة في ب.
(٢) في ب : أشار إلي عبد الله ..
(٣) في ه : فأدخل بها.
(٤) في ب ، ه : ثم أنشد.
(٥) النظر الشزر : الشديد ، الممتلئ غضبا.
(٦) انظر المطمح ص ٢٢.
(٧) الرعيل : جماعة الرجال التي تتقدم غيرها.
(٨) الثبج من الشيء : معظمه ، ومن الموج : أعلاه.