شاهدت من عجائبه أنه عاش سبعا وستين سنة ولم أره يوما تخلى عن (١) مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده ، حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك ، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب ، فقلت له : يا سيدي ، أفي هذا اليوم لا تستريح؟ فنظر إلي كالمغضب وقال : أظنك لا تفلح أبدا ، أترى الراحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب «المغرب» على غرضي ، قال : فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذّ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن ، ولو لا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه ، وكان أولع الناس بالتجول في البلدان ، ومشاهدة الفضلاء ، واستفادة ما يرى وما يسمع ، وفي تولّعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول : [بحر البسيط]
يا مفنيا عمره في الكأس والوتر |
|
وراعيا في الدّجى للأنجم الزهر |
يبكى حبيبا جفاه أو ينادم من |
|
يهفو لديه كغصن باسم الزهر |
منعّما بين لذات يمحقها |
|
ولا يخلد من فحر ولا سير |
وعاذلا لي فيما ظلت أكتبه |
|
يبدي التعجب من صبري ومن فكري |
يقول مالك قد أفنيت عمرك في |
|
حبر وطرس عن الأغصان والحبر |
وظلت تسهر طول الليل في تعب |
|
ولا تني (٢) أمد الأيام في ضجر |
أقصر فإني أدري بالذي طمحت |
|
لأفقه همتي واسأل عن الأثر |
واسمع لقول الذي تتلى محاسنه |
|
من بعد ما صار مثل الترب كالسور |
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة ، وهم |
|
بعد الممات جمال الكتب والسير (٣) |
وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين وخمسمائة ، وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوّال عام أربعين وستمائة.
وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة ، وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة.
وكان محمد بن عبد الملك وزيرا جليلا ، بعيد الصيت ، عالي الذكر ، رفيع الهمة ، كثير الأموال ، وذكره ابن صاحب الصّلات (٤) في كتابه «تاريخ الموحّدين» ونبه على مكانته منهم في
__________________
(١) في ب : «يخلي مطالعة كتاب. وفي ه : «يتخلى من».
(٢) لا تني : لا تفتر.
(٣) في ب : «انتهى».
(٤) في ب : «الصلاة».