وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته ، فتبؤأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته ، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء (١) ، وأطلق بساحتها الأرحاء ، ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه ، وقوّاده وحجابه ، فابتنوا بها كبار الدور ، وجليلات القصور ، واتخذوا خلالها المستغلّات المفيدة ، والمنارة المشيدة ، وقامت بها الأسواق ، وكثرت فيها الأرفاق ، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها ، والحلول بأطرافها ، للدنوّ من صاحب الدولة ، وتناهى الغلوّ في البناء حوله ، وحتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة ، واستقرت في بحبوحتها الإمارة ، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي ، وصير ذلك هو الرسم العافي (٢) ، ورتب فيها جلوس وزرائه ، ورؤوس أمرائه ، وندب إليها كل ذي خطته (٣) ، ونصب ببابها كرسيّ شرطته ، وأجلس عليها واليا على رسم كرسي الخليفة ، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة ؛ وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات ، ويقصدها أصحاب الولايات ، وينتابها طلاب الحوائج ، وحذّر أن يعوج عنها إلى دار (٤) الخليفة عائج (٥) ، فاقتضيت إليها اللّبانات والأوطار ، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار ، وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد ، وانتظم بلبّة أمانيه المراد ، وعطل قصر الخليفة من جميعه ، وصيّره بمعزل من سامعه ومطيعه ، وسدّ باب قصره عليه ، وجدّ في خبر ألا يصل إليه ، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر ، ويبسط فيه النهي والأمر ، ويشرف منه على كل داخل ، ويمنع ما يحذره من الدواخل ، ورتب عليه الحرّاس والبوّابين ، والسمّار والمنتابين ، يلازمون حراسة من فيه ليلا ونهارا ، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا ، وقد حجر على الخليفة كل تدبير ، ومنعه من تملك قبيل أو دبير ، وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء ، معجوز الغناء ، خفي الذكر ، عليل الفكر ، مسدود الباب ، محجوب الشخص عن الأحباب ، لا يراه خاص ولا عام ، ولا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام ، ولا يعهد منه (٦) إلا الاسم السلطاني في السّكة والدعوة ، وقد نسخه ولبّس أبهته ، وطمس بهجته ، وأغنى الناس عنه ، وأزال أطماعهم منه ، وصيرهم لا يعرفونه ، وأمرهم أنهم لا يذكرونه ، واشتد ملك محمد بن
__________________
(١) الأهراء : جمع هريّ : وهو البيت الذي تخزن فيه الحبوب.
(٢) العافي : الدارس.
(٣) في ب : كل ذي خطة بخطته.
(٤) في ب : باب الخليفة.
(٥) عائج : اسم فاعل من عاج على المكان : مال إليه وعرّج.
(٦) في ب ، ه : ولا يعهد فيه.