أطول العكوف والتزم أشدّ الالتزام ، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب ، وبلاغ في الإغراب والإعجاب ، وذلك أن سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين ، أدام الله له عوائد النصر والتمكين ، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم ، وحركته إليه دواعي خلقه العظيم ، وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية ، وسجاياه الحسنة الرضية ، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم ، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم ، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه ، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه ، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه ، فأوصله الله إليه تحفة سنية ، وهدية هنية ، وتحية من عنده مباركه زكية ، دون أن يكدرها من البشر اكتساب ، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب ، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه ، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقه ، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه ، وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه ، وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا ، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا ، وجمع عند ذلك بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ سائر الأبناء الكرام ، والسادة الأعلام ، بدور الآفاق ، وكواكب الإشراق ، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق ، فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيرا إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة ، والتئام خطوطها على مركز الدائرة ، ووصول المتقدم ذكره ، المشهور في جميع المعمور أمره ، وهو هذا : [الطويل]
دراريّ من نور الهدى تتوقّد |
|
مطالعها فوق المجرّة أسعد |
وأنهار جود كلّما أمسك الحيا |
|
يمدّ بها طامي الغوارب مزبد(١) |
وآساد حرب غابها شجر القنا |
|
ولا لبد إلا العجاج الملبّد(٢) |
مساعير في الهيجا مساريع للنّدى |
|
بأيديهم يحمى الهجير ويبرد |
تشبّ بهم ناران للحرب والقرى |
|
ويجري بهم سيلان جيش وعسجد(٣) |
ويستمطرون البرق والبرق عندهم |
|
سيوف على أفق العداة تجرّد |
إذا منّ سجف السّاريات مضاؤها |
|
فماذا الّذي يغني الحديد المسرّد(٤) |
__________________
(١) الحيا : المطر. وطامي الغوارب : أعالي الموج.
(٢) في ب ، ه : ولا لبدة.
(٣) القرى ، بكسر القاف : ما قدّم للضيفان.
(٤) في ب : إذا عنّ.