قريب وبعيد عن وعد ووعيد ، ورحلنا وفضل الله شامل ، والتوكل عليه كاف كافل ، وخيّمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم ، واستكملوا أسرابهم ، ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها ، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها ، وعندما حللنا قاشرة (١) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا ، ومستعيد حظه من مواقع (٢) جهادنا ، ومقتضى دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا ، قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته ، وتمسك بطاعته ، وشمله حكم جماعته ، فكان لقاؤنا إياه على حال أقرّت عيون المسلمين ، وتكفلت بإعزاز الدين ، ومجملها يغني عن التعيين ، والشرح والتبيين ، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم ، وأشك في حال اليقظة خيالهم ، من جموع تسدّ الفضا ، وأبطال تنازع أسد الغضى (٣) ، وكتائب منصورة ، ورايات منشورة ، وأمم محشورة ، تفضل عن مرأى العين ، وتردي العدوّ في مهاوي الحين (٤) ، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم ، واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم ، وإذا كثّر الله تعالى العدد نما وزكا ، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا ، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف ، وسمت الهوى (٥) إلى الاستشراف ، وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف ، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا ، ولا يجد الاعتبار (٦) عندها دخلا ، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها ، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها ، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها ، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع ، وافرة الجموع ، واستجنّت (٧) من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر ، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر ، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع ، والمصال والمصاع ، وخالطوهم هبرا بالسيوف ، ومباكرة بالحتوف ، فتركوهم حصيدا ، وأذاقوهم وبالا شديدا ، وجدّلوا منهم جملة وافرة ، وأمة كافرة ، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة ، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة ، واقتحم المسلمون الوادي سيما (٨) في غمره ، واستهانة في سبيل الله بأمره ، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها ، وتعلّقوا بأوائل الأسوار ففرعوها ، فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال ، وتيسير الآلات وترتيب الرجال ،
__________________
(١) قاشرة : من أحواز لبلة بالأندلس.
(٢) في ب : لواحق جهادنا.
(٣) في ه ، ب : وأبطال تقارع أسود الغضى.
(٤) الحين ، بفتح الحاء : الهلاك.
(٥) في ب : الهوادي.
(٦) في ه : ولا يجد الاختيار.
(٧) استجنّت : اتخذت جنة وحافظا ودرعا.
(٨) في ب : سبحا.