وفيه أن أبا عامر بن شهيد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث (١) آس ، وعرشت بسرور وائتناس ، وقرع النواقيس يبهج (٢) سمعه ، وبرق الحميا يسرج لمعه (٣) ، والقس قد برز في عبدة المسيح ، متوشحا بالزنانير أبدع توشيح ، قد هجروا الأفراح ، واطّرحوا النعم كل اطّراح ، لا يعمدون إلى ماء بآنية إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح ، وأقام بينهم يعملها حميا ، كأنما يرشف من كأسها شفة لميا وهي تنفح له بأطيب عرف (٤) ، كلما رشفها أعذب رشف ، ثم ارتجل ، بعد ما ارتحل ، فقال : [الكامل]
ولربّ حان قد شممت بديره |
|
خمر الصّبا مزجت بصرف عصيره |
في فتية جعلوا السّرور شعارهم |
|
متصاغرين تخشّعا لكبيره |
والقسّ مما شاء طول مقامنا |
|
يدعو بعود حولنا بزبوره |
يهدي لنا بالرّاح كلّ مصفر |
|
كالخشف خفّره التماح خفيره(٥) |
يتناول الظّرفاء فيه وشربهم |
|
لسلافه ، والأكل من خنزيره |
رجع إلى أنباء (٦) الزهراء ـ قال بعض من أرخ الأندلس : كان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل ، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة ، وكان من الرجال (٧) من له درهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة ، وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستة آلاف صخرة سوى الآجر والصخر غير المعدل ، انتهى ، وسيأتي في الزهراء مزيد كلام.
وقال ابن حيان : ابتدأ الناصر بناء الزهراء أول يوم من محرم سنة ٣٢٥ ، وجعل طولها من شرق إلى غرب ألفين وسبعمائة ذراع ، وتكسيرها تسعمائة ألف ذراع وتسعون ألف ذراع ، كذا نقله بعضهم ، وللنظر فيه مجال ، قال : وكان يثيب (٨) على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير سوى ما كان يلزم على قطعها (٩) ونقلها ومؤنة (١٠) حملها ، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية ، والمجزّع من رية ، والوردي والأخضر من إفريقية من إسفاقس وقرطاجنّة ،
__________________
(١) أضغاث : جمع ضغث ، وهو قبضة من عشب مختلط رطبه بيابس.
(٢) في ب : يهيج.
(٣) في ب ، ج : يسرع لمعه.
(٤) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة العطرة.
(٥) الخشف : ولد الغزالة أول ما يولد.
(٦) في ب ، ه : رجع إلى بناء الزهراء.
(٧) في ه : الرحالة.
(٨) في ه : يثبت.
(٩) في ب : كان يلزمه من النفقة على قطعها ..
(١٠) في ب : ومؤونة حملها ..