وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات ، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمدصلىاللهعليهوسلم ، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها ، وذلك كونها رحمة للعالمين ، فهذه الجملة عطف على جملة (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] ختاما لمناقب الأنبياء ، وما بينهما اعتراض واستطراد.
ولهذه الجملة اتصال بآية (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣].
ووزانها في وصف شريعة محمد صلىاللهعليهوسلم وزان آية : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨] وآية : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.
وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى ، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به ، ذكر فيه الرسول ، ومرسله ، والمرسل إليهم ، والرسالة ، وأوصاف هؤلاء الأربعة ، مع إفادة عموم الأحوال ، واستغراق المرسل إليهم ، وخصوصية الحصر ، وتنكير (رَحْمَةً) للتعظيم ، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل : إلا لنرحم العالمين ، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أنّ المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا ، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب ، وهي :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا : «أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل» دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير. وهي غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير «حبيب ومنزل» إلا للوحدة لأنه أراد فردا معيّنا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل ، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل ، ومنزله.