والإمساك حقيقته : أخذ الشيء باليد مع الشدّ عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت ، وهو يتعدّى بنفسه ، أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.
وأما قولهم : أمسك بكذا ، فالباء إمّا لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] ، وإمّا لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [لقمان : ٢٢].
وقد أوهم في «القاموس» و «اللسان» و «التاج» أنه لا يتعدى بنفسه.
فقوله هنا : (وَما يُمْسِكْ) حذف مفعوله لدلالة قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) عليه. والتقدير : وما يمسكه من رحمة ، ولم يذكر له بيان استغناء ببيانه من فعل.
والإرسال : ضد الإمساك ، وتعدية الإرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.
و (مِنْ بَعْدِهِ) بمعنى : من دونه كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣](فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) [الجاثية : ٦] ، أي فلا مرسل له دون الله ، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه. وتذكير الضمير في قوله : (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مراعاة للفظ (ما) لأنها لا بيان لها ، وتأنيثه في قوله : (فَلا مُمْسِكَ لَها) لمراعاة بيان (ما) في قوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) لقربه.
وعطف (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل رجّح فيه جانب الإخبار فعطف ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولا لإفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها ، وأنه لا يستطيع أحد نقض ما أبرمه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه ، فأنّ نقض ما أبرم ضرب من الهوان والمذلّة. ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى :
علقم ما أنت إلى عامر |
|
الناقض الأوتار والواتر |
وضمير (لَها) وضمير (لَهُ) عائدان إلى (ما) من قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى (ما) فإنه اسم صادق على (رَحْمَةٍ) وقد بيّن بها ، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ (ما) لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه. وهما اعتباران كثيران في مثله في فصيح الكلام ، فالمتكلم بالخيار بين أيّ الاعتبارين شاء. والجمع بينهما في هذه الآية تفنن. وأوثر بالتأنيث ضمير (ما) لأنها مبيّنة بلفظ مؤنث وهو