وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.
والغيب تقدم في قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] على معان ذكرت هنالك.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب (عالِمِ الْغَيْبِ) بصيغة اسم الفاعل ، وبرفع (عالِمِ) على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضا ومجرورا على الصفة لاسم الجلالة في قوله : (رَبِّي).
وقرأ حمزة والكسائي علام بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن اتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلا سفسطائيا على أنها ليست بواقعة ، ولذلك سماها القرآن الواقعة في قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ١ ، ٢].
والعزوب : الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [٦١].
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) [٤٧].
وأشار بقوله : (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رفاتا وترابا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلا يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع وإلا تحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإن عدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالما بمصير كل جزء ، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتنفخ فيها أرواحها. فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها ، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن